جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥١٧
ولما ذكر تعالى أمر الساعة وأنها كائنة لا محالة، فكان في ذلك دلالة على النشأة الآخرة. وتقدم
٥٢١
وصفهم بانتفاء العلم، ذكر تعالى النشأة الأولى وهي إخراجهم من بطون أمهاتهم غير عالمين شيئاً، تنبيهاً على وقوع النشأة الآخرة. ثم ذكر تعال امتنانه عليهم بجعل الحواس التي هي سبب لإدراك الأشياء والعلم، ولما كانت النشأة الأولى، وجعل ما يعلمون به لهم من أعظم النعم عليهم قال : لعلكم تشكرون، وتقدّم الكلام في أمهات في النساء. وقرأ حمزة : بكسر الهمزة، والميم هنا وفي النور، والزمر، والنجم، والكسائي بكسر الهمزة فيهن، والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم. قال أبو حاتم : حذف الهمزة رديء، ولكحن قراءة ابن أبيّ أصوب انتهى. وإنما كانت أصوب لأنّ كسر الميم إنما هو لاتباعها حركة الهمزة، فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الاتباع، بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقرّ الميم على حركتها. ولا تعلمون جملة حالية أي : غير عالمين. وقالوا : لا تعلمون شيئاً مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم، أو شيئاً مما قضى عليكم من السعادة أو القاوة، أو شيئاً من منافعكم. والأولى عموم لفظ شيء، ولا سيما في سياق النفي. وقال وهب : يولد المولود حذر إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألماً. ويحتمل وجعل أن يكون معطوفاً على أخرجكم، فيكون واحداً في حيز خبر المبتدأ، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار معطوفاً على الجملة الابتدائية كاستئنافها.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥١٧
والمراد بالسمع والأبصار والأفئدة إحساسها وإدراكها، فعبر عن ذلك بالآية. وقال أبو عبد الله الرازي ما معناه : إنما جمع الفؤاد جمع قلة، لأنه إنما خلق للمعارق الحقيقية اليقينية، وأكثر الخلق مشغولون بالأفعال البهيمية، فكان فؤادهم ليس بفؤاد، فلذلك ذكر في جمعه جمع القلة انتهى ملخصاً. وهو قول هذياني، ولولا جلاله قائله وتسطيره في الكتب ما ذكرته، وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري : أنه من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة والقلة، إذا لم يرد في السماع غيرها كما جاء : شسوع في جمع شسع لا غير، فجرى ذلك المجرى انتهى. إلا أنّ دعوى الزمخشري أنه لم يجيء في جمع شسع إلا شسع لا غير، ليس بصحيح، بل جاء فيه جمع القلة قالوا : أشساع، فكان ينبغي له أن يقول : غلب شسوع. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وطلحة، والأعمش، وابن هرمز : ألم تروا بتاء الخطاب، وباقي السبعة بالياء. قال ابن عطية : واختلف عن الحسن، وعيسى الثقفي، وعاصم، وأبي عمرو. ولما ذكر تعالى مدارك العلم الثلاثة : السمع، والنظر، والعقل، والأولان مدرك المحسوس، والثالث مدرك المعقول، اكتفى من ذكر مدرك المحسوس بذكر النظر، فإنه أغرب لما يشاهد به من عظيم المخلوقات على بعدها المتفاوت، كمشاهدته النيرات التي في الأفلاك. وجعل هنا موضع الاعتبار والتعجب الحيوان الطائر، فإنّ طيرانه في الهواء مع ثقل جسمه مما يعجب منه ويعتبر به. وتضمنت الآية أيضاً ذكر مدرك العقل في كونه لا يسقط، إذ ليس تحته ما يدعمه، ولا فوقه ما يتعلق به، فيعلم بالعقل أنه له ممسك قادر على إمساكه وهو الله تعالى، كما قال تعالى :﴿يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـا فَّـاتٍ وَيَقْبِضْنَا مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَـانُا إِنَّه بِكُلِّ شَىْءا بَصِيرٌ﴾ فانتظم في الآية ذكر مدرك الحس ومدرك العقل. ومعنى مسخرات : مذللات، وبني للمفعول دلالة على أن له مسخراً. وقال أبو عبد الله الرازي : هذا دليل على كمال قدرة الله وحكمته، فإنه تعالى خلق الطائر خلقه معها يمكنه الطيران، أعطاه جناحاً يبسطه مرة، ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء، وخلق الجو خلقه معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة، يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكناً انتهى. وكلامه منتزع من كلام القاضي قال : إنما أضاف الإمساك إلى نفسه، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات لأجلها تمكن الطائر من تلك الأفعال، فلما كان هو المتسبب لذلك صحت هذه الإضافة انتهى. والذي نقوله : إنه كان يمكنه أن يطير ولو لم يخلق له جناح، وأنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى،
٥٢٢


الصفحة التالية
Icon