﴿لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ وهدى ورحمة في هذه السورة. ولا يمتنع عطفه على المصدر المنسبك من أن والفعل، لأنه مجرور، فيكون وهدى وبشرى مجرورين كما تقول : جئت لأحسن إلى زيد وإكرام لخالد، إذ التقدير : لإحسان إلى زيد. وأجاز أبو البقاء أن يكون ارتفاع هدى وبشرى على إضمار مبتدأ أي : وهو هدى وبشرى. ولما نسبوه عليه السلام للافتراء وهو الكذب على الله، لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا ذلك الافتراء الذي نسبوه هو من تعليم بشر إياه، فليس هو المختلق بل المختلق غيره، وهو ناقل عنه. وظاهر قولهم : إنما أنت مفتر. إنّ معناه : مختلف الكذب، وهو ينافي التعلم من البشر، فيحتمل أن يكون قوله : مفتر، في نسبة ذلك إلى الله، ويحتمل أن يكونوا فيه طائفتين : طائفة ذهبت إلى أنه هو المفتري، وطائفة أنه يتعلم من البشر. ويعلم مضارع اللفظ ومعناه : المضي أي : ولقد علمنا، وجاء إسناد التعليم إلى مبهم لم يعين. فقيل : هو حبر غلام ورمى كان لعامر بن الحضرمي، وقيل : عائش أو يعيش، وكان صاحب كتب مولى حويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه قاله : الفراء، والزجاج. وقيل : أبو فكيهة أعجمي مولى لمرأة بمكة. قيل : واسمه يسار وكان يهودياً قاله : مقاتل، وابن جبير، إلا أنه لم يقل كان يهودياً. وقال ابن زيد : كان رجلاً حداداً نصرانياً اسمه عنس. وقال حصين بن عبد الله بن مسلم : كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، يسار وحبر، كانا يقرآن كتباً لهما بلسانهم، وكان صلى الله عليه وسلّم يمر بهما فيسمع قراءتهما. قيل : وكانا حدادين يصنعان السيوف، فقال المشركون : يتعلم منهما فقيل لأحدهما ذلك فقال : بل هو يعلمني، فقال ابن عباس : كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له : بلعام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعلمه الإسلام فقالت قريش : هذا يعلم محمداً من جهة الأعاجم. وقال الضحاك : الإشارة إلى سلمان الفارسي، وضعف هذا من جهة أنّ سلمان إنما أسلم بعد الهجرة، وهذا السورة مكية إلا ما نبه عليه أنه مدني. واللسان : هنا اللغة. وقرأ الحسن : اللسان الذي بتعريف اللسان بأل، والذي صفته. وقرأ حمزة والكسائي : يلحدون من لحد ثلاثياً، وهي قراءة عبد الله بن طلحة، والسلمي، والأعمش، ومجاهد، وقرأ باقي السبعة، وابن القعقاع : بضم الياء وكسر الحاء من ألحد رباعياً وهما بمعنى واحد. قال الزمخشري : يقال ألحد القبر ولحده، فهو ملحد وملحوداً ذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه، ثم استعير لكل إمالة عن استقامة فقالوا : ألحد فلان في قوله : وألحد في دينه لأنه أمال دينه عن الأديان كلها، لم يمله من دين إلى دين. والمعنى : لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمي غير بين، وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة، ردّاً لقولهم وإبطالاً لطعنهم انتهى. وظاهر قول الزمخشري : إن اللسان في الموضعين اللغة. وقال ابنعطية : وهذا إشارة إلى القرآن، والتقدير : وهذا سرد لسان أو نطق لسان، فهو على حذف مضاف، وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارة. واللسان في كلام العرب اللغة، ويحتمل أن يراد في هذه الآية. وقال الكرماني :
٥٣٦
المعنى أنتم أفصح وأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظماً ونثراً، وقد عجزتم وعز جميع العرب، فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن ؟
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٢٨
قال الزمخشري :(فإن قلت) : الجملة التي هي قوله لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، ما محلها ؟ (قلت) : لا محل لها، لأنها مستأنفة جواب لقولهم، ومثله قول الله : أعلم، حيث يجعل رسالاته بعد قوله :﴿وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ انتهى. ويجوز عندي أن تكون جملة حالية فموضعها نصب وذلك أبلغ في الإنكار عليهم أي : يقولون ذلك والحالة هذه أي : علمهم بأعجمية هذا البشر وإبانة عربية هذا القرآن كان يمنعهم من تلك المقالة، كما تقول : تشتم فلاناً وهو قد أحسن إليك أي : علمك بإحسانه لك كان يقتضي منعك من شتمه. وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف ولم يذهب إلى الحال، لأن من مذهبه أن مجيء الجملة الحالية الاسمية بغير واو شاذ، وهو مذهب مرجزوح جداً، ومجيء ذلك بغير واو لا يكاد ينحصر كثرة في كلام العرب، وهو مذهب تبع فيه الفراء، وأما الله أعلم فظاهر قوله فيها، لأنها جملة خالية من ضمير يعود على ذي الحال، لأن ذا الحال هو ضمير قالوا، وفي هذه الآية ذو الحال ضمير يقولون، والضمير الذي في جملة الحال هو ضمير الفاعل في يلحدون، فالجملة وإن عريت عن الواو ففيها ضمير ذي الحال.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٢٨


الصفحة التالية
Icon