ومعنى ﴿زَكِيَّةَ﴾ طاهرة من الذنوب، ووصفها بهذا الوصف لأنه لم يرها أذنبت، قيل أو لأنها صغيره لم تبلغ الحنث. وقوله ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ يرده ويدل على كبر الغلام وإلاّ فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ولا بغير نفس. وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وزيد وابن بكير عن يعقوب والتمار عن رويس عنه وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو زاكية بالألف. وقرأ زيد بن عليّ والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون ﴿زَكِيَّةَ﴾ بغير ألف وبتشديد الياء وهي أبلغ من زاكية لأن فعيلا المحول من فاعل يدل على المبالغة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٤٠
وقرأ الجمهور ﴿نُّكْرًا﴾ بإسكان الكاف. وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم برفع الكاف حيث كان منصوباً. والنكر قيل : أقل من الأمر لأن قتل نفس واحدة أهون من إعراق أهل السفينة. وقيل :
١٥٠
معناه شيئاً أنكر من الأول، لأن الخرق يمكن سده والقتل لا سبيل إلى تدارك الحياة معه. وفي قوله ﴿لَكَ﴾ زجر وإغلاظ ليس في الأول لأن موقعه التساؤل بأنه بعد التقدم إلى ترك السؤال واستعذار موسى بالنسيان أفظع وأفظع في المخالفة لما كان أخذ على نفسه من الصبر وانتفاء العصيان.
﴿قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءا بَعْدَهَا﴾ أي بعد هذه القصة أو بعد هذه المسألة ﴿فَلا تُصَـاحِبْنِى ﴾ أي فأوقع الفراق بيني وبينك. وقرأ الجمهور ﴿فَلا تُصَـاحِبْنِى ﴾ من باب المفاعلة. وقرأ عيسى ويعقوب فلا تصحبني مضارع صحب وعيسى أيضاً بضم التاء وكسر الحاء مضارع أصحب، ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني علمك وقدره بعضهم فلا تصحبني إياك وبعضهم نفسك. وقرأ الأعرج بفتح التاء والباء وشد النون. ومعنى ﴿قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْرًا﴾ أي قد اعتذرت إليّ وبلغت إلى العذر. وقرأ الجمهور ﴿مِن لَّدُنِّى﴾ بإدغام نون لدن في نون الوقاية التي اتصلت بياء المتكلم. وقرأ نافع وعاصم بتخفيف النون وهي نون لدن اتصلت بياء المتكلم وهو القياس، لأن أصل الاسماء إذا أضيفت إلى ياء المتكلم لم تلحق نون الوقاية نحو غلامي وفرسي، وأشم شعبة الضم في الدال، وروي عن عاصم سكون الدال. قال ابن مجاهد : وهو غلط وكأنه يعني من جهة الرواية، وأما من حيث اللغة فليست بغلط لأن من لغاتها لد بفتح اللام وسكون الدال. وقرأ عيسى ﴿عُذْرًا﴾ بضم الذال ورويت عن أبي عمرو وعن أبي عذري بكسر الراء مضافاً إلى ياء المتكلم. وفي البخاري قال :"يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما" وأسند الطبري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه فقال :"رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأي العجب" ولكنه قال ﴿فَلا تُصَـاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْرًا﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٤٠
والقرية التي أتيا أهلها إنطاكية أو الأبله أو بجزيرة الأندلس وهي الجزيرة الخضراء، أو برقة أو أبو حوران بنا حية أذربيجان، أو ناصرة من أرض الروم أو قرية بأرمينية أقوال مضطربة بحسب اختلافهم في أي ناحية من الأرض كانت قصة والله أعلم بحقيقة ذلك. وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله تعالى. وتكرر لفظ ﴿أَهْلَ﴾ على سبيل التوكيد، وقد يظهر له فائدة عن التوكيد وهو أنهما حين ﴿أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ﴾ لم يأتيا جميع أهل القرية إنما أتيا بضعهم، فلما قال ﴿اسْتَطْعَمَآ﴾ احتمل أنهما لم يستطعما إلاّ ذلك البعض الذي أتياه فجيء بلفظ أهلها ليعم جميعهم وأنهم يتبعونهم واحداً واحداً بالاستطعام، ولو كان التركيب استطعماهم لكان عائداً على البعض المأتي.
وقرأ الجمهور ﴿يُضَيِّفُوهُمَا﴾ بالتشديد من ضيف. وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بكسر الضاد وإسكان الياء من أضاف، كما تقول ميّل وأمال، وإسناد الإرادة إلى الجدار من المجاز البليغ والاستعارة البارعة وكثيراً ما يوجد في كلام العرب إسناد أشياء تكون من أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل من الحيوان وإلى الجماد، أو الحيوان الذي لا يعقل مكان العاقل لكان صادراً منه ذلك الفعل. وقد أكثر الزمخشري وغيره من إيراد الشواهد على ذلك ومن له أدنى مطالعة لكلام العرب لا يحتاج إلى شاهد في ذلك.


الصفحة التالية
Icon