أليس ورائي أن أدب على العصافتأمن أعداء وتسأمني أهلي وقال ابن عطية : وقوله ﴿وَرَآءَهُم﴾ عندي هو على بابه، وذلك أن هذه الالفاظ إنما تجيء يراعى بها الزمن، والذي يأتي بعد هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، فهذه الآية معناها أن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمن غصب هذا الملك، ومن قرأ أمامهم أراد في المكان أي أنهم كانوا يسيرون إلى بلده وقوله تعالى في التوراة والإنجيل. إنها بين يدي القرآن، مطرد على ما قلناه في الزمن. وقوله ﴿مِّن وَرَآاِهِمْ﴾ مطرد كما قلنا من مراعاة الزمن. وقول النبيّ صلى الله عليه وسلّم :"الصلاة أمامك" يريد في المكان، وإلاّ فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمن. وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب الألفاظ ووقع لقتادة في كتب الطبري ﴿أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ﴾. قال قتادة : أمامهم ألا ترى أنه يقول ﴿مِّن وَرَآاِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ وهي من بين أيديهم، وهذا القول غير مستقيم وهذه هي العجة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها قاله الزجاج. ويجوز أن كان رجوعهم في طريقهم على الغاصب فكان وراءهم حقيقة انتهى. وهو كلام فيه تكثير وكأنه ينظر إلى ما قاله الفراء. قال الفراء : لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك، إنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام والدهر تقول : وراءك برد شديد، وبين يديك برد شديد جاز الوجهان لأن البرد إذا لحقك صار من ورائك، وكأنك إذا بلغته صار بين يديك. قال : إنما جاز هذا في اللغة لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٥٣
وقال أبو علي : إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة، ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر، وأكثر أهل اللغة على أن وراء من الأضداد انتهى.
قيل : واسم هذا الملك هدد بن بدد وكان كافراً. وقيل : الجلندي ملك غسان، وقوله ﴿فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ في هذا حذف وهو أن المعنى وكان كافراً وكذا وجد في مصحف أبيّ. وقرأ ابن عباس :﴿وَأَمَّا الْغُلَـامُ فَكَانَ﴾ كافرا
١٥٤
وكان ﴿أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ ونص في الحديث على أنه كان كافراً مطبوعاً على الكفر، ويراد بأبويه أبوه وأمه ثني تغليباً من باب القمرين في القمر والشمس، وهي تثنية لا تنقاس. وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري : فكان أبواه مؤمنان، فخرجه الزمخشري وابن عطية وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن، والجملة في موضع خبر لكان، وأجاز أبو الفضل الرازي على أن في كل ضمير الشأن والجملة في موضع خبر لكان، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون مؤمنان على لغة بني الحارث ابن كعب، فيكون منصوباً، وأجاز أيضاً أن يكون في كان ضمير الغلام والجملة خبر كان.
﴿فَخَشِينَآ﴾ أي خفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين ﴿طُغْيَـانًا﴾ عليهما ﴿وَكُفْرًا﴾ لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، ويلحق بهما شراً وبلاء، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفرة، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان، وطاغ كافر أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان. وإنما خشى الخضر منه ذلك لأن الله عز وعلا أعلمه بحاله وأطلعه على سرائر أمره وأمره بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته. وفي قراءة أبيّ فخاف ربك، والمعنى فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره. ويجوز أن يكون قوله ﴿فَخَشِينَآ﴾ حكاية لقول الله عز وجل بمعنى فكرهنا كقوله ﴿لاهَبَ لَكِ﴾ قاله الزمخشري. وفي قوله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته مذهب المعتزلة في قولهم بالأجلين، والظاهر إسناد فعل الخشية في خشينا إلى ضمير الخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر وتكلموا. وقيل : هو في جهة الله وعنه عبر الخضر وهو الذي قال فيه الزمخشري، ويجوز أن يكون إلى آخر كلامه. قال الطبري : ومعناه وقال : معناه فكر هنا. قال ابن عطية : والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة أي على ظن المخلوقين، والمخاطب لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للوالدين.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٥٣