فرأى مغيب الشمس عند مآبهافي عين ذي خلب وثاط حرمد أي في عين ماء ذي طين وحم أسود. وفي حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نظر إلى الشمس عند غروبها فقال :"أتدري أين تغرب يا أبا ذر ؟" فقلت : لا. فقال :"إنها تغرب في عين حامية". وهذا الحديث وظاهر النص دليل على أن قوله ﴿فِى عَيْنٍ﴾ متعلق بقوله ﴿تَغْرُبُ﴾ لا ما قاله بعض المتعسفين أن قوله في ﴿عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها أي هي آخر الأرض، ومعنى ﴿تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ﴾ أي فيما ترى العين لا أن ذلك حقيقة كما نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض، ويجوز أن تكون هذه العين من البحر، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها، وزعم بعض البغداديين أن ﴿فِى﴾ بمعنى عند أي ﴿تَغْرُبُ﴾ عند عين.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٥٦
﴿وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ﴾ أي عند تلك العين. قال ابن السائب : مؤمنين وكافرين. وقال غيره : كفرة لباسهم جلود السباع وطعامهم ما أحرقته الشمس من الدواب، وما لفظته العين من الحوت إذا غربت. وقال وهب : انطلق يؤم المغرب إلى أن انتهى إلى باسك فوجد جمعاً لا يحصيهم إلاّ الله، فضرب حولهم ثلاثة عساكر حتى جمعهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم في النور ودعاهم إلى عبادة الله، فمنهم من آمن ومنهم من صدّ عنه. وقال أبو زيد السهيلي : هم أهل حابوس
١٥٩
ويقال لها بالسريانية جرجيساً يسكنها قوم من نسل ثمود. بقيتهم الذين آمنوا بصالح عليه السلام.
وظاهر قوله ﴿قُلْنَآ﴾ أنه أوحي الله إليه على لسان ملك. وقيل : كلمه كفاحاً من غير رسول كما كلم موسى عليه السلام، وعلى هذين القولين يكون نبياً ويبعد ما قاله بعض المتأولين أنه إلهام وإلقاء في روعه لأن مثل هذا التخيير لا يكون إلاّ بوحي إذ التكاليف وإزهاق النفوس لا تتحقق بالإلهام إلاّ بالإعلام. وقال عليّ بن عيسى : المعنى ﴿قُلْنَآ﴾ يا محمد قالوا ﴿قُلْنَا يَـاذَا الْقَرْنَيْنِ﴾ ثم حذف القول الأول لأن ذا القرنين لم يصح أنه نبي فيخاطبه الله، وعلى هذا يكون الضمير الذي في قالوا. المحذوفة يعود على جنده وعسكره الذين كانوا معه.
وقوله ﴿إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ﴾ بالقتل على الكفر ﴿وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ أي بالحمل على الإيمان والهدى، إما أن تكفر فتعذب، وإما أن تؤمن فتحسن فعبر في التخيير بالمسبب عن السبب. قال الطبري : اتخاذ الحسن هو أسرهم مع كفرهم يعني أنه خير مع كفرهم بين قتلهم وبين أسرهم، وتفصيل ذي القرنين ﴿أَمَّا مَن ظَلَمَ﴾ و﴿أَمَّا مَن﴾ يدفع هذا القول ولما خيره تعالى بين تعذيبهم ودعائهم إلى الإسلام اختار الدعوة والاجتهاد في استمالتهم. فقال : أما من دعوته فأبى إلاّ البقاء على الظلم وهو الكفر هنا بلا خلاف فذلك هو المعذب في الدارين، وأما من آمن وعمل ما يقتضيه الإيمان فله جزاء الحسنى. وأتى بحرف التنفيس في ﴿فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ لما يتخلل بين إظهاره كفره وبين تعذيبه من دعائه إلى الإيمان وتأبيه عنه، فهو لا يعاجلهم بالقتل على ظلمهم بل يدعوهم ويذكرهم فإن رجعوا وإلاّ فالقتل.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٥٦
وقوله ﴿ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ﴾ أي يوم القيامة وأتى بنون العظمة في ﴿نُعَذِّبُهُ﴾ على عادة الملوك في قولهم نحن فعلنا. وقوله ﴿إِلَى رَبِّهِ﴾ فيه إشعار بأن التخيير لذي القرنين ليس من الله تعالى، إذ لو كان كذلك لكان التركيب ثم يرد إليك فتعذبه، ولا يبعد أن يكون التخيير من الله ويكون قد أعلم ذو القرنين بذلك أتباعه ثم فصل مخاطباً لاتباعه لا لربه تعالى، وما أحسن مجيء هذه الجمل لما ذكر ما يستحقه من ظلم بدأ بما هو أقرب لهم ومحسوس عندهم، وهو قوله ﴿فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ ثم أخبر بما يلحقه آخراً يوم القيامة وهو تعذيب الله إياه العذاب النكر ولأن الترتيب الواقع هو كذا ولما ذكر ما يستحقه ﴿مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا﴾ ذكر جزاء الله له في الآخرة وهو ﴿الْحُسْنَى ﴾ أي الجنة لأن طمع المؤمن في الآخرة ورجاءه هو الذي حمله على أن آمن لأجل جزائه في الآخرة، وهو عظيم بالنسبة للإحسان في الدنيا ثم أتبع ذلك بإحسانه له في الدنيا بقوله ﴿وَسَنَقُولُ لَه مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾ أي لا نقول له ما يتكلفه مما هو شاق عليه أي قولاً ذا يسر وسهولة كما قال قولاً ميسوراً. ولما ذكر ما أعد الله له من الحسنى جزاء لم يناسب أن يذكر جزاءه بالفعل بل اقتصر على القول أدباً مع الله تعالى وإن كان يعلم أنه يحسن إليه فعلاً وقولاً.


الصفحة التالية
Icon