﴿فَأَتَتْ بِهِ﴾ قيل إتيانها كان من ذاتها. قيل : طهرت من النفاس بعد أربعين يوماً وكان الله تعالى قد أراها آيات واضحات، وكلمها عيسى ابنا وحنت إلى الوطن وعلمت أن عيسى سيكفيها من يكلمها فعادت إلى قومها. وقيل : أرسلوا إليها لتحضري إليها بولدك، وكان الشيطان قد أخبر قومها بولادتها وفي الكلام حذف أي فلما رأوها وابنها ﴿قَالُوا ﴾ قال مجاهد والسدّي : الفري العظيم الشنيع. وقرأ أبو حيوة فيما نقل ابن عطية ﴿فَرِيًّا﴾ بسكون الراء، وفيما نقل ابن خالويه فرئاً بالهمز، و﴿هَـارُونَ﴾ شقيقها أو أخوها من أمّها، وكان من أمثل بني إسرائيل، أو ﴿هَـارُونَ﴾ أخو موسى إذ كانت من نسله، أو رجل صالح من بني إسرائيل شبهت به، أو رجل من النساء وشبهوها به أقوال. والأولى أنه أخوها الأقرب. وفي حديث المغيرة حين خصمه نصارى نجران في قوله تعالى ﴿فَأَرْسِلْ إِلَى هَـارُونَ﴾ والمدة بينهما طويلة جداً فقال له الرسول :"ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم". وأنكروا عليها ما جاءت به وأن أبويها كانا صالحين، فكيف صدرت منك هذه الفعلة القبيحة وفي هذا دليل على أن الفروع غالباً تكون زاكية إذا زكت الأصول، وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٦٩
وقرأ عمر بن لجا التيمي الشاعر الذي كان يهاجي جريراً ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ﴾ لجعل الخبر
١٨٦
المعرفة والاسم النكرة وحسن ذلك قليلاً كونها فيها مسوع جواز الابتداء وهو الإضافة، ولما اتهموها بما اتهموها نفوا عن أبويها السوء لمناسبة الولادة، ولم ينصوا على إثبات الصلاح وإن كان نفي السوء يوجب الصلاح ونفي البغاء يوجب العفة لأنهما بالنسبة إليهما نقيضان. روي أنها لما دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك. وقيل : هموا برجمها حتى تكلم عيسى فتركوها.
﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه. وقيل : كان المستنطق لعيسى زكريا. ويروى أنهم لما أشاروا إلى الطفل قالوا : استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة الإنكار والتهكم بها أي إن من كان في المهد يُربيّ لا يكلم، وإنما أشارت إليه لما تقدم لها من وعده أنه يجيبهم عنها ويغنيها عن الكلام. وقيل : بوحي من الله إليها. و﴿كَانَ﴾ قال أبو عبيدة : زائدة. وقيل : تامّة وينتصب ﴿صَبِيًّا﴾ على الحال في هذين القولين، والظاهر أنها ناقصة فتكون بمعنى صار أو تبقى على مدلولها من اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي، ولا يدل ذلك على الانقطاع كما لم يدل في قوله ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ وفي قوله ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى ا إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً﴾ والمعنى ﴿كَانَ﴾ وهو الآن على ما كان، ولذلك عبر بعض أصحابنا عن ﴿كَانَ﴾ هذه بأنها ترادف لم يزل وما ردّ به ابن الأنباري كونها زائدة من أن الزائدة لا خبر لها، وهذه نصبت ﴿صَبِيًّا﴾ خبراً لها ليس بشيء لأنه إذ ذاك ينتصب على الحال، والعامل فيها الاستقرار.
وقال الزمخشري : كان لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة والدال عليه معنى الكلام وأنه مسوق للتعجب، ووجه آخر أن يكون ﴿نُكَلِّمُ﴾ حكاية حال ماضية أي كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس ﴿صَبِيًّا﴾.
﴿فِى الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ فيما سلف من الزمان حتى نكلم هذا انتهى. والظاهر أن ﴿مِنْ﴾ مفعول بنكلم. ونقل عن الفراء والزجاج أن ﴿مِنْ﴾ شرطية و﴿كَانَ﴾ في معنى يكن وجواب الشرط محذوف تقديره فكيف ﴿نُكَلِّمُ﴾ وهو قول بعيد جداً. وعن قتادة أن ﴿الْمَهْدِ﴾ حجر أمه. وقيل : سريره. وقيل : المكان الذي يستقر عليه. وروي أنه قام متكئاً على يساره وأشار إليهم بسبابته اليمني، وأنطقه الله تعالى أولاً بقوله ﴿قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَـانِىَ﴾ ردّاً للوهم الذي ذهبت إليه النصارى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٦٩