وفي قوله ﴿عَبْدُ اللَّهِ﴾ والجمل التي بعده تنبيه على براءة أمّه مما اتهمت به لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بالنبوة والخلال الحميدة إلاّ مبرأة مصطفاة و﴿الْكِتَـابِ﴾ الإنجيل أو التوراة أو مجموعهما أقوال. وظاهر قوله ﴿وَجَعَلَنِى نَبِيًّا﴾ أنه تعالى نبأه حال طفوليته أكمل الله عقله واستنبأه طفلاً. وقيل : إن ذلك سبق في قضائه وسابق حكمه، ويحتمل أن يجعل الآتي لتحققه كأنه قد وجد ﴿وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا﴾ قال مجاهد : نفاعاً. وقال سفيان : معلم خير. وقيل : آمراً بمعروف، ناهياً عن منكر. وعن الضحاك : قضاء للحوائج ﴿وَلَوْ كُنتُ﴾ شرط وجزاؤه محذوف تقديره ﴿وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا﴾ وحذف لدلالة ما تقدم عليه، ولا يجوز أن يكون معمولاً لجعلني السابق لأن ﴿أَيْنَ﴾ لا يكون إلاّ استفهاماً أو شرطاً لا جائز أن يكون هنا استفهاماً، فتعينت الشرطية واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله إنما هو معمول للفعل الذي يليه، والظاهر حمل الصلاة والزكاة على ما شرع في البدن والمال. وقيل :﴿الزَّكَواةَ﴾ زكاة الرؤوس في الفطر. وقيل الصلاة الدعاء، و﴿الزَّكَواةَ﴾ التطهر.
و﴿مَا﴾ في ﴿مَا دُمْتُ﴾ مصدرية ظرفية. وقال ابن عطية. وقرأ ﴿دُمْتُ﴾ بضم الدال عاصم وجماعة. وقرأ ﴿دُمْتُ﴾ بكسر الدال أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو وانتهى والذي في كتب القراءات أن القراء السبعة قرؤوا ﴿دُمْتُ حَيًّا﴾ بضم الدال، وقد طالعنا جملة من الشواذ فلم نجدها لا في شواذ السبعة ولا في شواذ غيرهم على أنها لغة تقول ﴿دُمْتُ﴾ تدام كما قالوا مت تمات، وسبق أنه قرىء ﴿وَبَرَّا ﴾ بكسر الباء فإما على حذف مضاف أي وذا بر، وإما على المبالغة جعل
١٨٧
ذاته من فرط بره، ويجوز أن يضمر فعل في معنى أوصاني وهو كلفني لأن أوصاني بالصلاة وكلفنيها واحد، ومن قرأ ﴿وَبَرَّا ﴾ بفتح الباء فقال الحوفي وأبو البقاء : إنه معطوف على ﴿مُبَارَكًا﴾ وفيه بعد للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة التي هي ومتعلقها، والأولى إضمار فعل أي وجعلني. وحكى الزهراوي وأبو البقاء أنه قرىء وبر بكسر الباء والراء عطفاً على ﴿نَبِيًّا * وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٦٩
وقوله :﴿بِوَالِدَتِى﴾ بيان محل البر وأنه لا والد له، وبهذا القول برأها قومها. والجبار كما تقدم المتعاظم وكان في غاية التواضع يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب حيث جنه الليل لا مسكن له، وكان يقول : سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي، والألف واللام في ﴿وَالسَّلَـامُ﴾ للجنس. قال الزمخشري : هذا التعريف تعريض بلعنة متهمي مريم وأعدائهما من اليهود، وحقيقته أن اللام للجنس فإذا قال : وجنس السلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم، ونظيره ﴿وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ يعني إن العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنة لنحو هذا من التعريض. وقيل : أل لتعريف المنكر في قصة يحيى في قوله ﴿وَسَلَـامٌ﴾ نحو ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا﴾ فعصى فرعون الرسول أي وذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إليّ. وسبق القول في تخصيص هذه المواطن.
وقرأ زيد بن علي ﴿يَوْمَ وُلِدتُّ﴾ أي يوم ولدتني جعله ماضياً لحقته تاء التأنيث ورجح وسلام عليّ والسلام لكونه من الله وهذا من قول عيسى عليه السلام. وقيل : سلام عيسى أرجح لأنه تعالى أقامه في ذلك مقام نفسه فسلم نائباً عن الله.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٦٩
١٨٨
﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَا قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِى فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍا سُبْحَـانَهُا إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ مِنا بَيْنِهِم فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَـاكِنِ الظَّـالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الامْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الارْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾.