وخطب الزمخشري فقال : انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطاً فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقل وانسلخ عن قضية التمييز كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحاً في ذلك نصيحة ربه جل وعلا. حدث أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار"، كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة
١٩٣
القدس، وأدنيه من جواري. وسرد الزمخشري بعد هذا كلاماً كثيراً من نوع الخطابة تركناه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٢
و﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ﴾ الظاهر أنها موصولة، وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة ومعمول ﴿يَسْمَعُ﴾ و﴿يُبْصِرُ﴾ منسي ولا ينوي أي ما ليس به استماع ولا إبصار لأن المقصود نفي هاتين الصفتين دون تقييد بمتعلق. و﴿شَيْـاًا﴾. إما مصدر أو مفعول به، ولما سأله عن العلة في عبادة الصنم ولا يمكن أن يجد جواباً، انتقل معه إلى إخباره بأنه قد جاءه من العلم ما لم يأته ولم يصف أباه بالجهل إذ يغني عنه السؤال السابق. وقال ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ على سبيل التبعيض أي شيء من العلم ليس معك، وهذه المحاورة تدل على أن ذلك كان بعدما نبىء، إذ في لفظ ﴿جَآءَنِى﴾ تجدد العلم، والذي جاءه الوحي الذي أتى به الملك أو العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها أو توحيد الله وإفراده بالالوهية والعبادة أقوال ثلاثة ﴿فَاتَّبِعْنِى ﴾ على توحيد الله بالعبادة وارفض الأصنام ﴿أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة. وانتقل من أمره باتباعه إلى نهيه عن عبادة الشيطان وعبادته كونه يطيعه في عبادة الأصنام ثم نفره عن عبادة الشيطان بأنه كان عصياً للرحمن، حيث استعصى حين أمره بالسجود لآدم فأبى، فهو عدوّ لك ولأبيك آدم من قبل. وكان لفظ الرحمن هنا تنبيهاً على سعة رحمته، وأن من هذا وصفه هو الذي ينبغي أن يعبد ولا يعصى، وإعلاماً بشقاوة الشيطان حيث عصى من هذه صفته وارتكب من ذلك ما طرده من هذه الرحمة، وإن كان مختاراً لنفسه عصيان ربه لا يختار لذريته من عصى لأجله إلاّ ما اختار لنفسه من عصيانهم.
﴿إِلَيْكَ لاقْتُلَكَا إِنِّى أَخَافُ﴾ قال الفرّاء والطبري ﴿أَخَافُ﴾ أعلم كما قال ﴿فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا﴾ أي تيقنا، والأولى حمل ﴿أَخَافُ﴾ على موضوعه الأصلي لأنه لم يكن آيساً من إيمانه بل كان راجياً له وخائفاً أن لا يؤمن وأن يتمادى على الكفر فيمسه العذاب، وخوّفه إبراهيم سوء العاقبة وتأدّب معه إذ لم يصرّح بلحوق العذاب به بل أخرج ذلك مخرج الخائف، وأتى بلفظ المس الذي هو ألطف من المعاقبة ونكر العذاب، ورتب على مس العذاب ما هو أكبر منه وهو ولاية الشيطان كما قال في مقابل ذلك ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ أي من النعيم السابق ذكره، وصدر كل نصيحة بقوله توصلاً إليه واستعطافاً.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٢
وقيل : الولاية هنا كونه مقروناً معه في الآخرة وإن تباغضاً وتبرأ بعضهما من بعض. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير إني أخاف أن تكون ولياً في الدنيا للشيطان فيمسك في الآخرة عذاب من الرحمن. وقوله ﴿إِنِّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَـانِ﴾ لا يعين أن العذاب يكون في الآخرة، بل يحتمل أن يحمل العذاب على الخذلان من الله فيصير موالياً للشيطان، ويحتمل أن يكون مس العذاب في الدنيا بأن يبتلى على كفره بعذاب في الدنيا فيكون ذلك العذاب سبباً لتماديه على الكفر وصيرورته إلى ولاية الشيطان إلى أن يوافي على الكفر كما قال ﴿وَبَلَوْنَـاهُم بِالْحَسَنَـاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ وهذه المناصحات تدل على شدة تعلق قلبه بمعالجة أبيه، والطماعية في هدايته قضاء لحق الأبوة وإشاداً إلى الهدى "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم".
﴿قَالَ﴾ أي أبوه ﴿أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِى يَـا إِبْرَاهِيمُ﴾ استفهم استفهام إنكار، والرغبة عن الشيء تركه عمداً وآلهته أصنامه، وأغلظ له في هذا الإنكار وناداه باسمه ولم يقابل بيا بني. قال الزمخشري : وقدم الخبر على المبتدأ في قوله ﴿وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِى﴾ لأنه كان أهم عنده وهو عنده أعني وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته، وإن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد. وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه انتهى. والمختار في إعراب ﴿أَرَاغِبٌ أَنتَ﴾ أن يكون راغب مبتدأ لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام، و﴿أَنتَ﴾ فاعل سد مسد الخبر، ويترجح هذا
١٩٤


الصفحة التالية
Icon