الإعراب على ما أعربه الزمخشري من كون ﴿أَرَاغِبٌ﴾ خبراً و﴿أَنتَ﴾ مبتدأ بوجهين :
أحدهما : أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير إذ رتبة الخبر أن يتأخر عن المبتدأ.
والثاني : أن لا يكون فصل بين العامل الذي هو ﴿أَرَاغِبٌ﴾ وبين معموله الذي هو ﴿عَنْ ءَالِهَتِى﴾ بما ليس بمعمول للعامل، لأن الخبر ليس هو عاملاً في المبتدأ بخلاف كون ﴿أَنتَ﴾ فاعلاً فإن معمول ﴿أَرَاغِبٌ﴾ فلم يفصل بين ﴿أَرَاغِبٌ﴾ وبين ﴿عَنْ ءَالِهَتِى﴾ بأجنبي إنما فصل بمعمول له.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٢
ولما أنكر عليه رغبته عن آلهته توعده مقسماً على إنفاذ ما توعده به إن لم ينته ومتعلق ﴿تَنتَهِ﴾ محذوف واحتمل أن يكون عن مخاطبتي بما خاطبتني به ودعوتني إليه، وأن يكون ﴿لَـاِن لَّمْ تَنتَهِ﴾ عن الرغبة عن آلهتي ﴿لارْجُمَنَّكَ﴾ جواب القسم المحذوف قبل ﴿لَـاِن﴾. قال الحسن : بالحجارة. وقيل : لأقتلنك. وقال السدي والضحاك وابن جريج : لأشتمنك.
قال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف ﴿وَاهْجُرْنِى﴾ ؟ قلت : على معطوف عليه محذوف يدل عليه ﴿لارْجُمَنَّكَ﴾ أي فاحذرني ﴿وَاهْجُرْنِى﴾ لأن ﴿لارْجُمَنَّكَ﴾ تهديد وتقريع انتهى. وإنما احتاج إلى حذف ليناسب بين جملتي العطف والمعطوف عليه، وليس ذلك بلازم عند سيبويه بل يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة الإنشائية. فقوله ﴿وَاهْجُرْنِى﴾ معطوف على قوله ﴿لَـاِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ﴾ وكلاهما معمول للقول. وانتصب ﴿مَلِيًّا﴾ على الظرف أي دهراً طويلاً قاله الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما، ومنه الملوان وهما الليل والنهار والملاوة بتثليث حركة الميم الدهر الطويل من قولهم : أمليت لفلان في الأمر إذا أطلت له. وقال الشاعر :
فعسنا بها من الشباب ملاوةفالحج آيات الرسول المحبب
وقال سيبويه : سير عليه مليّ من الدهر أي زمان طويل. وقال ابن عباس وغيره :﴿مَلِيًّا﴾ معناه سالم سوّياً فهو حال من فاعل ﴿وَاهْجُرْنِى﴾. قال ابن عطية : وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستنداً بحالك غنياً عني ﴿مَلِيًّا﴾ بالاكتفاء. وقال السدي : معناه أبداً. ومنه قول مهلهل :
فتصدعت صم الجبال لموتهوبكت عليه المرملات ملياً
وقال ابن جبير : دهر، وأصل الحرف المكث يقال : تمليت حيناً. وقال الزمخشري : أو ﴿مَلِيًّا﴾ بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرخ فلان ملي بكذا إذا كان مطيقاً له مضطلعاً به انتهى.
﴿قَالَ سَلَـامٌ عَلَيْكَ﴾. قرأ أبو البرهثيم : سلاماً بالنصب. قال الجمهور : هذا بمعنى المسالمة لا بمعنى التحية، أي أمنة مني لك وهؤلاء لا يرون ابتداء الكافر بالسلام. وقال النقاش حليم : خاطب سفيهاً كقوله ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلَـامًا﴾. وقيل : هي تحية مفارق، وجوز قائل هذا تحية الكافر وإن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلاً بقوله تعالى ﴿لا يَنْهَـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ﴾ الآية وبقوله ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ﴾ الآية.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٢
و﴿قَالَ﴾ إبراهيم لأبيه ﴿سَلَـامٌ عَلَيْكَ﴾ وما استدل به متأول، ومذهبهم محجوج بما ثبت في صحيح مسلم :"لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام" ورفع ﴿سَلَـامٌ﴾ على الابتداء ونصبه على المصدر، أي سلمت سلاماً دعاء له بالسلامة على سبيل الاستمالة، ثم وعده بالاستغفار وذلك يكون بشرط حصول ما يمكن معه الاستغفار وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة، وهذا كما يرد الأمر والنهي على الكافر ولا يصح الامتثال إلاّ بشرط الإيمان. ومعنى ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ﴾ أدعو الله في هدايتك فيغفر لك بالإيمان ولا يتأول على إبراهيم عليه السلام أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر. قال ابن عطية : ويجوز أن يكون إبراهيم عليه السلام أول نبيّ أوحي إليه أن الله لا يغفر لكافر لأن هذه الطريقة إنما طريقها السمع، وكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه، وذلك أنه إنما تبين له في أبيه أنه عدو لله بأحد وجهين : إما بموته على الكفر كما روي، وإما أن
١٩٥
يوحي إليه الحتم عليه.