﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ﴾ أي نحن في ذلك النزع لا نضع شيئاً غير موضعه، لأنا قد أحطنا علماً بكل واحد فأولى بصلى النار نعلمه. قال ابن جريج : أولى بالخلود. وقال الكلبي ﴿صِلِيًّا﴾ دخولاً. وقيل : لزوماً. وقيل : جمع صال فانتصب على الحال وبها متعلق بأولى. والواو في قوله ﴿وَإِن مِّنكُمْ﴾ للعطف. وقال ابن عطية :﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا ﴾ قسم والواو تقتضيه، ويفسره قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم :"من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلاّ تحلة القسم". انتهى. وذهل عن قول النحويين أنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلاّ إذا كان الجواب باللام أو بأن، والجواب هنا جاء على زعمه بأن النافية فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا. وقوله والواو تقتضيه يدل على أنها عنده واو القسم، ولا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو قسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار، ولا يجوز ذلك إلاّ إن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما أولوا في قولهم : نعم السير على بئس العير، أي على عير بئس العير. وقول الشاعر :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٢
والله ما زيد بنام صاحبه
أي برجل نام صاحبه. وهذه الآية ليست من هذا الضرب إذ لم يحذف المقسم به وقامت صفته مقامه.
وقرأ الجمهور ﴿مِّنكُمْ﴾ بكاف الخطاب، والظاهر أنه عام للخلق وأنه ليس الورود الدخول لجميعهم، فعن ابن مسعود والحسن وقتادة هو الجواز على الصراط لأن الصراط ممدود عليها. وعن ابن عباس : قد يرد الشيء ولم يدخله كقوله ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ﴾ ووردت القافلة البلد ولم تدخله، ولكن قربت منه أو وصلت إليه. قال الشاعر :
فلما وردن الماء زرقاً جمامةوضعن عصى الحاضر المتخيم
وتقول العرب : وردنا ماء بني تميم وبني كلب إذا حضروهم ودخلوا بلادهم، وليس يراد به الماء بعينه. وقيل : الخطاب للكفار أي قل لهم يا محمد فيكون الورود في حقهم الدخول، وعلى قول من قال الخطاب عام وأن المؤمنين والكافرين يدخلون النار ولكن لا تضر المؤمنين، وذكروا كيفية دخول المؤمنين النار بما لا يعجبني نقله في كتابي هذا الشناعة قولهم أن المؤمنين يدخلون النار
٢٠٩
وإن لم تضرهم.
وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعة وإن منهم : بالهاء للغيبة على ما تقدم من الضمائر. وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالورود جثوهم حولها وإن أريد الكفار خاصة فالمعنى بيِّن، واسم ﴿كَانَ﴾ مضمر يعود على الورود أي كان ورودهم حتماً أي واجباً قضي به. وقرأ الجمهور ﴿ثُمَّ﴾ بحرف العطف وهذا يدل على أن الورود عام. وقرأ عبد الله وابن عباس وأبيّ وعليّ والجحدري وابن أبي ليلى ومعاوية بن قرة ويعقوب ثَمَّ بفتح الثاء أي هناك، ووقف ابن أبي ليلى ثمه بهاء السكت. وقرأ الجمهور :﴿نُنَجِّى﴾ بفتح النون وتشديد الجيم. وقرأ يحيى والأعمش والكسائي وابن محيصن بإسكان النون وتخفيف الجيم. وقرأت فرقة نجي بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة. وقرأ علي : ننحي بحاء مهملة مضارع نحى، ومفعول ﴿اتَّقَوا ﴾ محذوف أي الشرك والظلم هنا ظلم الكفر.
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ﴾ نزلت في النضر بن الحارث وأصحابه، كان فقراء الصحابة في خشونة عيش ورثاثة سربال والمشركون يدهنون رؤوسهم ويرجلون شعورهم ويلبسون الحرير وفاخر الملابس، فقالوا للمؤمنين :﴿أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا﴾ أي منزلاً وسكناً ﴿وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ ولما أقام الحجة على منكري البعث وأتبعه بما يكون يوم القيامة أخبر عنهم أنهم عارضوا تلك الحجة الدامغة بحسن شارتهم في الدنيا، وذلك عندهم يدل على كرامتهم على الله. وقرأ أبو حيوة والأعرج وابن محيصن يتلي بالياء والجمهور بالتاء من فوق كان المؤمن يتلو على الكافر القرآن وينوه بآيات النبيّ صلى الله عليه وسلّم فيقول الكافر : إنما يحسن الله لأحب الخلق إليه وينعم على أهل الحق، ونحن قد أنعم علينا دونكم فنحن أغنياء وأنتم فقراء، ونحن أحسن مجلساً وأجمل شارة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٢
ومعنى ﴿بَيِّنَـاتٍ﴾ مرتلات الألفاظ ملخصات المعاني أو ظاهرات الإعجاز أو حججاً وبراهين. و﴿بَيِّنَـاتٍ﴾ حال مؤكدة لأن آياته تعالى لا تكون إلاّ بهذا الوصف دائماً. وقرأ الجمهور ﴿مَّقَامًا﴾ بفتح الميم. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد والجعفي وأبو حاتم عن أبي عمر وبضم الميم واحتمل الفتح والضم أن يكون مصدراً أو موضع قيام أو إقامة، وانتصابه على التمييز. ثم ذكر تعالى كثرة ما أهلك من القرون ممن كان أحسن حالاً منهم في الدنيا تنبيهاً على أنه تعالى يهلكهم ويستأصل شأفتهم كما فعل بغيرهم واتعاظاً لهم إن كانوا ممن يتعظ، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من حسن الأثاث والري، ويعني إهلاك تكذيب لما جاءت به الرسل. و﴿مِّن قَرْنٍ﴾ تبيين لكم و﴿كَمْ﴾ مفعول بأهلكنا.


الصفحة التالية
Icon