ثم ذكر تعالى أنه ﴿أَحْصَاهُمْ﴾ وأحاط بهم وحصرهم بالعدد، فلم يفته أحد منهم وانتصب ﴿فَرْدًا﴾ على الحال أي منفرداً ليس معه أحد ممن جعلوه شريكاً، وخير ﴿كُلُّهُمْ﴾ ﴿فَرْدًا﴾ وكلّ إذا أضيف إلى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم وكل الناس فالمنقول أنه يجوز أن يعود الضمير مفرداً على لفظ كل، فتقول : كلكم ذاهب، ويجوز أن يعود جمعاً مراعاة للمعنى فتقول : كلكم ذاهبون. وحكى إبراهيم ابن أصبغ في كتاب رؤوس المسائل الإتفاق على جواز الوجهين، وعلى الجمع جاء لفظ الزمخشري في تفسير هذه الآية في الكشاف ﴿وَكُلُّهُمْ﴾ متقلبون في ملكوته مقهورون بقهره، وقد خدش في ذلك أبو زيد السهيلي فقال : كل إذا ابتدئت وكانت مضافة لفظاً يعني إلى معرفة فلا يحسن إلاّ إفراد الخبر حملاً على المعنى، تقول : كلكم ذاهب أي كل واحد منكم ذاهب، هكذا هذه المسألة في القرآن والحديث والكلام الفصيح فإن قلت : في قوله ﴿وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ﴾ إنما هو حمل على اللفظ لأنه اسم مفرد قلنا : بل هو اسم للجمع واسم الجمع لا يخبر عنه بإفراد، تقول : القوم ذاهبون، ولا تقول : القوم ذاهب وإن كان لفظ القوم كلفظ المفرد، وإنما حسن كلكم ذاهب لأنهم يقولون كل واحد منكم ذاهب فكان الإفراد مراعاة لهذا المعنى انتهى. ويحتاج في إثبات كلكم ذاهبون بالجمع ونحوه إلى سماع ونقل عن العرب، أما إن حذف المضاف المعرفة فالمسموع من العرب الوجهان.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٢
والسين في ﴿سَيَجْعَلُ﴾ للاستقبال فاحتمل أن يكون هذا الجعل في الدنيا، وجيء بأداة الاستقبال لأن المؤمنين كانوا بمكة حال نزول هذه السورة، وكانوا ممقوتين من الكفرة، فوعدهم الله بذلك إذا ظهر الإسلام وفشا. واحتمل أن يكون ذلك في الدنيا على الإطلاق كما في الترمذي. قال :"إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إني قد أحببت فلاناً فأحبه، قال : فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في الأرض" قال الله عز وجل :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا﴾ إلى آخر الحديث وقال : هذا حديث صحيح. قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون الآية متصلة بما قبلها في المعنى أي أن الله تعالى لما أخبر عن إتيان كل من في السموات والأرض في حال العبودية والانفراد، أنس المؤمنين بأنه سيجعل لهم في ذلك اليوم ﴿وُدًّا﴾ وهو ما يظهر عليهم من كرامته لأن محبة الله للعبد إنما هي ما يظهر عليه من نعمه وأمارات غفرانه انتهى.
وقال الزمخشري : وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم. وقال أيضاً : والمعنى سيحدث لهم في القلوب مودّة ويزرعها لهم فيها من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي يكتسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع مبرة أو غير ذلك، وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصاً منه لأوليائه بكرامة خاصة، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً وإجلالاً لمكانهم انتهى. وقيل : في الكلام حذف والتقدير سيدخلهم دار كرامته
٢٢٠
ويجعل لهم ﴿وُدًّا﴾ بسبب نزع الغل من صدورهم بخلاف الكفار، فإنهم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً، وفي النار أيضاً يتبرأ بعضهم من بعض.
وقرأ الجمهور ﴿وُدًّا﴾ بضم الواو. وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها. وقرأ جناح بن حبيش ﴿وُدًّا﴾ بكسر الواو. قيل : نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن عوف كان اليهود والنصارى والمنافقون يحبونه، وكان لما هاجر من مكة استوحش بالمدينة فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزلت. وقيل : نزلت في المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب ألقى الله لهم وداً في قلب النجاشي، وذكر النقاش أنها نزلت في عليّ بن أبي طالب. وقال محمد بن الحنيفة : لا تجد مؤمناً إلاّ وهو يحب علياً وأهل بيته انتهى. ومن غريب هذا ما أنشدنا الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن عليّ بن يوسف الأنصاري الشاطبي رحمه الله تعالى لزبينا بن إسحاق النصراني الرسغي.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٢
عدّي وتيم لا أحاول ذكرهمبسوء ولكني محب لهاشم
وما تعتريني في عليّ ورهطهإذا ذكروا في الله لومة لائم
يقولون ما بال النصارى تحبهم
وأهل النهي من أعرب وأعاجم
فقلت لهم إني لأحسب حبهمسرى في قلوب الخلق حتى البهائم وذكر أبو محمد بن حزم أن بغض عليّ من الكبائر. والضمير في ﴿يَسَّرْنَاهُ﴾ عائد على القرآن، أي أنزلناه عليك ميسراً سهلاً ﴿بِلِسَانِكَ﴾ أي بلغتك وهو اللسان العربي المبين. ﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ﴾ أي تخبرهم بما يسرهم وبما يكون لهم من الثواب على تقواهم واللد جمع. وقال ابن عباس :﴿لُّدًّا﴾ ظلمة، ومجاهد فجازاً، والحسن صماً، وأبو صالح عوجاً عن الحق، وقتادة ذوي جدل بالباطل آخذين ف يكل لديد بالمراء أي في كل جانب لفرط لجاجهم يريد أهل مكة.
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا﴾ تخويف لهم وإنذار بالإهلاك بالعذاب والضمير في قوله ﴿قَبْلَهُم﴾ عائد على ﴿قَوْمًا لُّدًّا﴾ و﴿هَلْ تُحِسُّ﴾ استفهام معناه النفي أي لا تحس. وقرأ الجمهور :﴿هَلْ تُحِسُّ﴾ مضارع أحس. وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة وأبو جعفر المدني ﴿تُحِسُّ﴾ بفتح التاء وضم الحاء. وقرىء ﴿تُحِسُّ﴾ من حسه إذا شعر به ومنه الحواس والمحسوسات. وقرأ حنظلة ﴿أَوْ تَسْمَعُ﴾ مضارع أسمعت مبنياً للمفعول. وقال ابن عباس : الركز الصوت الخفي. قال ابن زيد الحس. وقال الحسن : لما أتاهم عذابنا لم يبق منهم شخص يرى ولا صوت يسمع. وقيل : المعنى ماتوا ونسي ذكرهم فلا يخبر عنهم مخبر.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٢


الصفحة التالية
Icon