والثاني : أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته، فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك هاهنا. المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته وذلك سبب رؤيته إياه، فكان ذكر المسبب دليلاً على السبب كأنه قيل : فكن شديد الشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه ﴿هَوَا هُ فَتَرْدَى ﴾ يجوز أن يكون منصوباً على جواز النهي وأن يكون مرفوعاً أي فأنت تردى. وقرأ يحيى فَتِردى بكسر التاء.
﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى ﴾ هو تقرير مضمنه التنبيه، وجمع النفس لما يورد عليها وقد علم تعالى في الأزل ما هي وإنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وجل في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضناضة، ويتقرر في
٢٣٣
نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه، وينبهه على قدرته الباهرة و﴿مَا﴾ استفهام مبتدأ و﴿تِلْكَ﴾ خبره و﴿يَمِينِكَ﴾ في موضع الحال كقوله ﴿وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا ﴾ والعامل اسم الإشارة. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون ﴿تِلْكَ﴾ أسماً موصولاً صلته بيمينك، ولم يذكر ابن عطية غيره وليس ذلك مذهباً للبصريين وإنما ذهب إليه الكوفيون، قالوا : يجوز أن يكون اسم الإشارة موصولاً حيث يتقدر بالموصول كأنه قيل : وما التي بيمينك ؟ وعلى هذا فيكون العامل في المجرور محذوفاً كأنه قيل : وما التي استقرت بيمينك ؟ وفي هذا السؤال وما قبله من خطابه تعالى لموسى عليه السلام استئناس عظيم وتشريف كريم.
﴿قَالَ هِىَ عَصَاىَ﴾. وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري عصَيّ بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم. وقرأ الحسن عَصَايِ بكسر الياء وهي مروية عن ابن أبي إسحاق أيضاً وأبي عمرو معاً، وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين. وعن أبي إسحاق والجحدري عَصَايْ بسكون الياء. ﴿قَالَ هِىَ﴾ أي أتحامل عليها في المشي والوقوف، وهذا زيادة في الجواب كما جاء "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". في جواب من سأل أيتوضأ بماء البحر ؟ وكما جاء في جواب ألهذا حج ؟ قال :"نعم ولك أجر". وحكمة زيادة موسى عليه السلام رغبته في مطاولة مناجاته لربه تعالى، وازدياد لذاذته بذلك كما قال الشاعر :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٢١
وأملي عتاباً يستطاب فليتنيأطلت ذنوباً كي يطول عتابه
وتعداده نعمه تعالى عليه بما جعل له فيها من المنافع، وتضمنت هذه الزيادة تفصيلاً في قوله ﴿قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ﴾ وإجمالاً في قوله ﴿وَلِىَ فِيهَا مَـاَارِبُ أُخْرَى ﴾. وقيل :﴿قَالَ هِىَ﴾ جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال ﴿هِىَ عَصَاىَ﴾ قال له تعالى فما تصنع بها ؟ قال :﴿قَالَ هِىَ﴾ الآية. وقيل : سأله تعالى عن شيئين عن العصا بقوله ﴿وَمَا تِلْكَ﴾ وبقوله ﴿بِيَمِينِكَ﴾ عما يملكه، فأجابه عن ﴿وَمَا تِلْكَ﴾ ؟ بقوله ﴿هِىَ عَصَاىَ﴾ وعن قوله ﴿بِيَمِينِكَ﴾ بقوله ﴿قَالَ هِىَ عَصَاىَ﴾ إلى آخره انتهى. وفي التحقيق ليس قوله ﴿بِيَمِينِكَ﴾ بسؤال وقدم في الجواب مصلحة نفسه في قوله ﴿قَالَ هِىَ﴾ ثم ثنى بمصلحة رعيته في قوله ﴿وَأَهُشُّ﴾.
وقرأ الجمهور بضم الهاء والشين المعجمة، والنخعي بكسرها كذا ذكر أبو الفضل الرازي وابن عطية وهي بمعنى المضمومة الهاء والمفعول محذوف وهو الورق. قال أبو الفضل : ويحتمل ذلك أن يكون من هش يهش هشاشة إذا مال، أي أميل بها على غنمي بما أصلحها من السوق وتكسير العلف ونحوهما، يقال منه : هش الورق والكلأ والنبات إذا جف ولأن انتهى. وقرأ الحسن وعكرمة : وأَهُسُّ بضم الهاء والسين غير معجمة، والهس السوق ومن ذلك الهس والهساس غير معجمة في الصفات. ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ وأَهُسُّ بضم الهمزة من أهس رباعياً وذكر صاحب اللوامح عن عكرمة ومجاهد وأَهُهُّ بضم الهاء وتخفيف الشين قال : ولا أعرف وجهه إلاّ أن يكون بمعنى العامة لكن فرّ من قراءته من التضعيف لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي. فيكون كتخفيف ظلت ونحوه. وذكر الزمخشري عن النخعي أنه قرأ ﴿عَلَيْهَا وَأَهُشُّ﴾ بضم الهمزة والشين المعجمة من أهش رباعياً قال : وكلاهما من هش الخبز يهش إذا كان يتكسر لهشاشته. ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى فقال ما هي إلاّ عصا لا تنفع إلاّ منافع بنات جنسها كما ينفع العيدان ليكون جوابه مطابقاً للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه، ويجوز أن يريد عز وجل أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة
٢٣٤
كأنه يقول أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة. كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها وقالوا اسم العصا نبعة انتهى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٢١


الصفحة التالية
Icon