وقرأت فرقة ﴿غَنَمِى﴾ بسكون النون وفرقة عليّ غنمي بإيقاع الفعل على الغنم. والمآرب ذكر المفسرون أنها كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل، وإذا قصر رشاؤه وصل بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه.
وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً وتكونان شمعتين بالليل، وإذا ظهر عدو حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب. وكانت تقيه الهوامّ ويردّ بها غنمه وإن بعد واو هذه العصا أخذها من بيت عصي الأنبياء التي كانت عند شعيب حين اتفقا على الرعية هبط بها آدم من الجنة وطولها عشرة أذرع، وقيل : اثنتا عشرة بذراع موسى عليه السلام وعامل المآرب وإن كان جمعاً معاملة الواحدة المؤنثة فأتبعها صفتها في قوله أخرى ولم يقل آخر رعياً للفواصل وهي جائز في غير الفواصل. وكان أجود وأحسن في الفواصل.
وقرأ الزهري وشيبة : مارب بغير همز كذا قال الأهوازي في كتاب الإقناع في القراءات ويعني والله أعلم بغير هم محقق، وكأنه يعني أنهما سهلاها بين بين.
﴿قَالَ أَلْقِهَا﴾ الظاهر أن القائل هو الله تعالى، ويبعد قول من قال يجوز أن يكون القائل الملك بإذن الله ومعنى ﴿أَلْقَـاهَآ﴾ اطرحها على الأرض ومنه قول الشاعر :
فألقت عصاها واستقر بها النوى
وإذا هي التي للمفاجأة، والحية تنطلق على الصغيرة والكبيرة والذكر والأنثى والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم منها، ولا تنافي بين تشبيهها بالجان في قوله ﴿فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾ وبين كونها ثعباناً لأن تشبيهها بالجان هو في أول حالها ثم تزيدت حتى صارت ثعباناً أو شبهت بالجان وهي ثعبان في سرعة حركتها واهتزازها مع عظم خلقها. قيل : كان لها عرف كعرف الفرس وصارت شعبتا العصا لها فماً وبين لحييها أربعون ذراعاً.
وعن ابن عباس : انقلبت ثعباناً تبتلع الصخر والشجر والمجن عنقاً وعيناها تتقدان، فلما رأى هذا الأمر العجيب الهائل لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف لا سيما هذا الأمر الذي يذهل العقول. ومعنى ﴿تَسْعَى ﴾ تنتقل وتمشي بسرعة، وحكمة انقلابها وقت مناجاته تأنيسه بهذا المعجز الهائل حتى يلقيها لفرعون فلا يلحقه ذعر منها في ذلك الوقت إذ قد جرت له بذلك عادة وتدريبه في تلقى تكاليف النبوّة ومشاق الرسالة، ثم أمره تعالى بالإقدام على أخذها ونهاه عن أن يخاف منها وذلك حين ولى مدبراً ولم يعقب. وقيل : إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها. وقيل : لما قال له الله ﴿لا تَخَفْ﴾ بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها ويبعد ما ذكره مكي في تفسيره أنه قيل له خذ مرة وثانية حتى قيل له ﴿خُذْهَا وَلا تَخَفْا سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاولَى ﴾ فأخذها في الثالثة لأن منصب النبوة لا يليق أن يأمره ربه مرة وثانية فلا يمتثل ما أمر به، وحين أخذها بيده صارت عصا والسيرة من السير كالركبة والجلسة، يقال : سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة. وقيل : سير الأولين. وقال الشاعر :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٢١
فلا تغضبن من سيرة أنت سرتهافأول راض سيرة من يسيرها
واختلفوا في إعراب ﴿سِيَرتَهَا﴾ فقال الحوفي مفعول ثان لسنعيدها على حذف الجار مثل ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ﴾ يعني إلى ﴿سِيَرتَهَا﴾ قال : ويجوز أن يكون بدلاً من مفعول ﴿سَنُعِيدُهَا﴾. وقال هذا الثاني أبو البقاء قال : بدل اشتمال أي صفتها وطريقتها. وقال الزمخشري : يجوز أن ينتصب على الظرف أي ﴿سَنُعِيدُهَا﴾ في طريقتها الأولى أي في حال ما كانت عصا انتهى. و﴿سِيَرتَهَا﴾ وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلاّ بواسطة، في ولا يجوز الحذف إلاّ في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون مفعولاً من عاده بمعنى عاد إليه. ومنه بيت زهير :
وعادك أن تلاقيها عداء
فيتعدى إلى مفعولين انتهى. وهذا هو الوجه الأول الذي ذكره الحوفي. قال : ووجه ثالث حسن وهو أن يكون ﴿سَنُعِيدُهَا﴾ مستقلاً بنفسه غير متعلق بسيرتها، بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية، فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولاً ونصب ﴿سِيَرتَهَا﴾ بفعل مضمر أي تسير ﴿سِيَرتَهَا الاولَى ﴾ يعني ﴿سَنُعِيدُهَا﴾ سائرة ﴿سِيَرتَهَا الاولَى ﴾ حيث كنت تتوكأ عليها، ولك فيها المآرب التي عرفتها انتهى.


الصفحة التالية
Icon