﴿إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ﴾ قيل اسمها مريم سبب ذلك أن آسية عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف به ويعرض للمراضع فيأبى، وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته بالتفتيش في المدينة لعلها تقع على خبره، فبصرت به في طوافها فقالت ﴿يَكْفُلُونَه لَكُمْ وَهُمْ لَه نَـاصِحُونَ﴾ فتعلقوا بها وقالوا : أنت عرفين هذا الصبيّ ؟ فقالت : لا، ولكن أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى الملكة والجد في خدمتها ورضاها، فتركوها وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها فسرّت آسية وقالت لها : كوني معنى في القصر، فقالت : ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي قالت : نعم، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع والنسب من الملكة، ولما كمل رضاعه أرسلت آسية إليها أن جيئيني بولدي ليوم كذا، وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل شباب، فسرّت به ودخلت به على فرعون ليراه وليهبه فأعجبه وقرّبه، فأخذ موسى بلحية فرعون وتقدم ما جرى له عند ذكر العقدة.
والعامل في ﴿إِذَا﴾ قال ابن عطية فعل مضمر تقديره ومننا إذ. وقال الزمخشري العامل في ﴿إِذْ تَمْشِى ﴾ أو تصنع، ويجوز أن يكون بدلاً من ﴿أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَآ﴾ فإن قلت : كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان ؟ قلت : كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل لقيت فلاناً سنة كذا، فتقول : وأنا لقيته إذ ذاك. وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها انتهى. وليس كما ذكر لأن السنة تقبل الاتساع فإذا وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين فإن كل واحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصصيهما بما أضيفا إليه فلا يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول، إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحي فيه ووقوع مشي الأخت فليس وقت وقوع الوحي مشتملاً على أجزاء وقع في بعضها المشي بخلاف السنة. وقال الحوفي :﴿إِذِ﴾ متعلقة بتصنع، ولك أن تنصب ﴿إِذِ﴾ بفعل مضمر تقديره واذكر.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٢١
وقرأ الجمهور ﴿كَىْ تَقَرَّ﴾ بفتح التاء والقاف. وقرأت فرقة بكسر القاف، وتقدم أنهما لغتان في قوله ﴿وَقَرِّى عَيْنًا ﴾. وقرأ جناح بن حبيش بضم التاء وفتح القاف مبنياً للمفعول. و﴿قَتَلْتَ نَفْسَا ﴾ هو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة، واغتم بسبب القتل خوفاً من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون، فغفر الله له باستغفاره حين قال ﴿رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى﴾ ونجاه من فرعون حين هاجر به إلى مدين والغمّ ما يغمّ على القلب بسبب خوف أو فوات مقصود، والغمّ بلغة قريش القتل، وقيل : من غم التابوت. وقيل : من غم البحر، والظاهر أنه من غم القتل حين ذهبنا بك من مصر إلى مدين. والفتون مصدر جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي ضروباً من الفتن، والفتنة المحنة وما يشق على الإنسان. وعن ابن عباس خلصناك من محنة بعد محنة. ولد في عام
٢٤٢
كان يقتل فيه الولدان، وألقته أمه في البحر وهمّ فرعون بقتله، وقتل قبطياً وآجر نفسه عشر سنين وضل الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة انتهى. وهذه الفتون اختبره بها وخلصه حتى صلح للنبوة وسلم لها والسنون التي لبثها في مدين عشر سنين. وقال وهب : ثمان وعشرون سنة منها مهر ابنته وبين مصر ومدين ثمان مراحل وفي الكلام حذف والتقدير ﴿الْغَمِّ وَفَتَنَّـاكَ فُتُونًا ﴾ فخرجت خائفاً إلى ﴿أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ فلبثت سنين وكان عمره حين ذهب إلى مدين اثني عشر عاماً وأقام عشرة أعوام في رعي غنم شعيب، ثم ثمانية عشر عاماً بعد بنائه بامرأته بنت شعيب، وولد له فيها فكمل له أربعون سنة وهي المدة التي عادة الله إرسال الأنبياء على رأسها.
﴿ثُمَّ جِئْتَ﴾ إلى المكان الذي ناجيتك فيه وكلمتك واستنبأتك. ﴿عَلَى قَدَرٍ﴾ أي وقت معين قدّرته لم تتقدمه ولم تتأخر عنه. وقيل على مقدار من الزمان يوحى إلى الأنبياء فيه وهو الأربعون. وقال الشاعر :
نال الخلافة أو جاءت على قدركما أتى ربه موسى على قدر ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى﴾ أي جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإكمال والإحسان، وأخلصتك بالألطاف واخترتك لمحبتي يقال : اصطنع فلان فلاناً اتخذه صنيعة وهو افتعال من الصنع وهو الإحسان إلى الشخص حتى يضاف إليه فيقال هذا صنيع فلان. وقال الزمخشري : هذا تمثيل لما خوله من منزلة التقريب والتكريم والتكليم مثل حاله بحال من يراه الملوك بجميع خصال فيه وخصائص أهلاً لأن يكون أقرب منزلة إليه وألطف محلاً فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويستخلصه لنفسه انتهى. ومعنى ﴿لِنَفْسِى﴾ أي لأوامري وإقامة حججي وتبليغ رسالتي، فحركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لأحد غيرك.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٢١


الصفحة التالية
Icon