﴿إِنَّكَ أَنتَ الاعْلَى ﴾ تقرير لغلبته وقهره وتوكيد بالاستئناف وبكلمة التوكيد وبتكرير الضمير وبلام التعريف، وبالأعلوية الدالة على التفضيل ﴿وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ﴾ لم يأت التركيب وألق عصاك لما في لفظ اليمين من معنى اليمن والبركة. قال الزمخشري : وقوله ﴿مَا فِى يَمِينِكَ﴾ ولم يقل عصاك جائز أن يكون تصغيراً لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه بقدرة الله يتلقفها على حدته وكثرتها وصغره وعظمها، وجائز أن يكون تعظيماً لها أي لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها، فألقه تتلقفها بإذن الله وتمحقها انتهى. وهو تكثير وخطابه لا طائل في ذلك.
وفي ذوله ﴿تَلْقَفْ﴾ جمل على معنى ما لا على لفظها إذ أطلقت ما على العصا والعصا مؤنثة، ولو حمل على اللفظ لكان بالياء. وقرأ الجمهور تَلَقَّف بفتح اللام وتشديد القاف مجزوماً على جواب الأمر. وقرأ ابن عامر كذلك وبرفع الفاء على الاستئناف أو على الحال من الملقى. وقرأ أبو جعفر وحفص وعصمة عن عاصم ﴿تَلْقَفْ﴾ بإسكان اللام والفاء وتخفيف القاف وعن قنبل أنه كان يشدد من تلقّف يريد يتلقف.
وقرأ الجمهور ﴿كَيْدَ﴾ بالرّفع على أن ﴿مَا﴾ موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف، ويحتمل أن تكون ﴿مَا﴾ مصدرية أي أن صنعتم كيد، ومعنى ﴿صَنَعُوا ﴾ هنا زوّروا وافتعلوا كقوله ﴿تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾. وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن عليّ ﴿هَـاذَا سِحْرٌ﴾ بالنصب مفعولاً لصنعوا وما مهيئة. وقرأ أبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف في اختياره وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وابن جرير وحمزة والكسائي سِحْر بكسر السين وإسكان الحاء بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر، أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه أو بذاته، أو بين الكيد لأنه يكون سحراً وغير سحر كما تبين المائة بدرهم ونحوه علم فقه وعلم نحو.
وقرأ الجمهور ساحر اسم فاعل من سحر، وأفرد ساحر من حيث أن فعل الجميع نوع واحد من السحر، وذلك الحبال والعصي فكأنه صدر من ساحر واحد لعدم اختلاف أنواعه. وقال الزمخشري : لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى أن قوله ﴿وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ﴾ أي هذا الجنس انتهى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٥٦
وعرف في قوله ﴿وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ﴾ لأنه عاد على ساحر النكرة قبله كقوله ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾. وقال الزمخشري : إنما نكر يعني أولاً من أجل تنكير المضاف لا من أجل تنكيره في نفسه كقول العجاج :
في سعي دنيا طال ما قد مدت
وفي حديث عمر رضي الله عنه : لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة المراد تنكير الأمر كأنه قال : إنما صنعوا كيد سحري وفي سعي دنياوي وأمر دنياوي وأخراوي انتهى. وقول العجاج. في سعي دنيا، محمول على الضرورة إذ دنيا تأنيث الأدنى، ولا يستعمل تأنيثه إلاّ
٢٦٠
بالألف واللام أو بالإضافة وأما قول عمر فيحتمل أن يكون من تحريف الرواة.
ومعنى ﴿وَلا يُفْلِحُ﴾ لا يظفر ببغيته ﴿حَيْثُ أَتَى ﴾ أي حيث توجه وسلك. وقالت فرقة معناه أن الساحر بقتل حيث تقف وهذا جزاء من عدم الفلاح. وقرأت فرقة أين أتى وبعد هذا جمل محذوفة، والتقدير فزال إيجاس الخيفة وألقى ما في يمينه وتلقفت حبالهم وعصيهم ثم انقلبت عصا، وفقدوا الحبال والعصي وعلموا أن ذلك معجز ليس في طوق البشر ﴿فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا﴾ وجاء التركيب ﴿فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ﴾ ولم يأت فسجدوا كأنه جاءهم أمر وأزعجهم وأخذهم فصنع بهم ذلك، وهو عبارة عن سرعة ما تأثروا لذلك الخارق العظيم فلم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين. وقدم موسى في الأعراف وأخر هارون لأجل الفواصل ولكون موسى هو المنسوب إليه العصا التي ظهر فيها ما ظهر من الإعجاز، وأخر موسى لأجل الفواصل أيضاً كقوله ﴿لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ وأزواجاً من نبات إذا كان شتى صفة لقوله أزواجاً ولا فرق بين قام زيد وعمرو وقام عمرو وزيداً إذا لوأ ولا تقتضي ترتيباً على أنه يحتمل أن يكون القولان من قائلين نطقت طائفة بقولهم رب موسى وهارون، وطائفة بقولهم : رب هارون وموسى ولما اشتركوا في المعنى صح نسبة كل من القولين إلى الجميع. وقيل : قدم ﴿هَـارُونَ﴾ هنا لأنه كان أكبر سناً من ﴿مُوسَى ا﴾. وقيل لأن فرعون كان ربَّى موسى فبدؤوا بهارون ليزول تمويه فرعون أنه ربي موسى فيقول أنا ربيته. وقالوا : رب هارون وموسى ولم يكتفوا بقولهم برب العالمين للنص على أنهم آمنوا ﴿بِرَبِّ﴾ هذين وكان فيما قبل يزعم أنه رب العالمين.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٥٦