وتقدم الخلاف في قراءة ﴿أَمِنتُمْ﴾ وفي لأقطعن ولأصلبن في الأعراف. وتفسير نظير هذه الآية فيها وجاء هناك آمنتم به وهنا له، وآمن يوصل بالباء إذا كان بالله وباللام لغيره في الأكثر نحو ﴿فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَى ﴾ ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ﴾ ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾ ﴿فَـاَامَنَ لَه لُوطٌ﴾ واحتمل الضمير في به أن يعود على موسى وأن يعود على الرب، وأراد بالتقطيع والتصليب في الجذوع التمثيل بهم، ولما كان الجذع مقراً للمصلوب واشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف عُدِّيَ الفعل بفي التي للوعاء. وقيل في بمعنى على. وقيل : نقر فرعون الخشب وصلبهم في داخله فصار ظرفاً لهم حقيقة حتى يموتوا فيه جوعاً وعطشاً ومن تعدية صلب بفي قول الشاعر :
وهم صلبوا العبدي في جذع نخلةفلا عطست شيبان إلاّ بأجدعا
وفرعون أول من صلب، وأقسم فرعون على ذلك وهو فعل نفسه وعلى فعل غيره، وهو ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ﴾ أي أيي وأي من آمنتم به. وقيل : أيي وأي موسى، وقال ذلك على سبيل الاستهزاء لأن موسى لم يكن من أهل التعذيب وإلى هذا القول ذهب الزمخشري قال : بدليل قوله ﴿لَه قَبْلَ﴾ واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله كقوله ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وفيه نفاحة باقتداره وقهره وما ألفه وضَرِيَ به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، وتوضيع لموسى عليه السلام واستضعاف مع الهزء به انتهى. وهو قول الطبري قال : يريد نفسه وموسى عليه السلام، والقول الأول أذهب مع مخرقة فرعون ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ﴾ هنا معلق ﴿فِرْعَوْنَ أَشَدَّ﴾ جملة استفهامية من مبتدإ وخبر في موضع نصب لقوله ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ﴾ سدّت مسد المفعولين أو في موضع مفعول واحد إن كان معدى تعدية عرف، ويجوز على الوجه أن يكون ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ﴾ مفعولاً وهو مبني على رأي سيبويه و﴿فِرْعَوْنَ أَشَدَّ﴾ خبر مبتدأ محذوف، و﴿أَيُّنَآ﴾ موصولة والجملة بعدها صلة والتقدير ومن هو ﴿أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٥٦
﴿قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ﴾ أي لن نختار اتباعك وكوننا من حزبك وسلامتنا من عذابك ﴿عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَـاتِ﴾ وهي المعجزة التي أتتنا وعلمنا صحتها. وفي قولهم هذا توهين له واستصغار لما هددهم به وعدم اكتراث بقوله. وفي نسبة المجيء
٢٦١
إليهم وإن كانت البينات جاءت لهم ولغيرهم لأنهم كانوا أعرف بالسحر من غيرهم، وقد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر فكانوا على جلية من العلم بالمعجز، وغيرهم يقلدهم في ذلك وأيضاً فكانوا هم الذين حصل لهم النفع بها فكانت بينات واضحة في حقهم.
والواو في ﴿وَالَّذِى فَطَرَنَا ﴾ واو عطف على ﴿مَا جَآءَنَا﴾ أي وعلى ﴿وَالَّذِى فَطَرَنَا ﴾ لما لاحت لهم حجة الله في المعجزة بدؤوا بها ثم ترقوا إلى القادر على خرق العادة وهو الله تعالى وذكروا وصف الاختراع وهو قولهم ﴿فَطَرَنَا ﴾ تبينناً لعجز فرعون وتكذيبه في ادعاء ربوبيته وإلاهيته وهو عاجز عن صرف ذبابة فضلاً عن اختراعها. وقيل : الواو للقسم وجوابه محذوف، ولا يكون ﴿لَن نُّؤْثِرَكَ﴾ جواباً لأنه لا يجاب في النفي بلن إلاّ في شاذ من الشعر و﴿مَا﴾ موصولة بمعنى الذي وصلته ﴿أَنتَ قَاضٍ﴾ والعائد محذوف أي ما أنت قاضيه. قيل : ولا يجوز أن تكون ﴿مَا﴾ مصدرية لأن المصدرية توصل بالأفعال، وهذه موصولة بابتداء وخبر انتهى. وهذا ليس مجمعاً عليه بل قد ذهب ذاهبون من النحاة إلى أن ﴿مَا﴾ المصدرية توصل بالجملة الاسمية. وانتصب ﴿هَـاذِهِ الْحَيَواةَ﴾ على الظرف وما مهيئة ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن قضاءك كائن في ﴿هَـاذِهِ الْحَيَواةَ الدُّنْيَآ﴾ لا في الآخرة، بل في الآخرة لنا النعيم ولك العذاب.
وقرأ الجمهور ﴿تَقْضِى﴾ مبنياً للفاعل خطاباً لفرعون. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة تُقْضَى مبنياً للمفعول هذه الحياة بالرفع اتسع في الظرف فاجْرِي مجرى المفعول به، ثم بُني الفعل لذلك ورفع به كما تقول : صم يوم الجمعة وولد له ستون عاماً. ولم يصرح في القرآن بأنه أنفذ فيهم وعيده ولا أنه قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، بل الظاهر أنه تعالى سلمهم منه ويدل على ذلك قوله ﴿أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَـالِبُونَ﴾ وقيل : أنفذ فيهم وعيده وصلبهم على الجذوع وإكراهه إياهم على السحر. قيل : حملهم على معارضة موسى. وقيل : كان يأخذ ولدان الناس ويجربهم على ذلك فأشارت السحرة إلى ذلك قاله الحسن ﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ ردّ على قوله ﴿أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ أي وثواب الله وما أعده لمن آمن به، روي أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى نائماً ففعل فوجده ويحرسه عصاه، فقالوا : ما هذا بسحر الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه ويظهر من قولهم أئن لنا لأجراً عدم الإكراه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٥٦