﴿إِنَّه مَن يَأْتِ﴾ قيل هو حكاية لهم عظة لفرعون. وقيل : خبر من الله لا على وجه الحكاية تنبيهاً على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة موعظة وتحذيراً، والمجرم هنا الكافر لذكر مقابله ﴿وَمَن يَأْتِهِا مُؤْمِنًا﴾ ولقوله ﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى ﴾ أي يعذب عذاباً ينتهي به إلى الموت ثم لا يجهز عليه فيستريح، بل يعاد جلده ويجدد عذابه فهو لا يحيا حياة طيبة بخلاف المؤمن الذي يدخل النار فهم يقاربون الموت ولا يجهز عليهم فهذا فرق بين المؤمن والكافر. وفي الحديث "إنهم يماتون إماتة" وهذا هو معناه لأنه لا يموت في الآخرة و﴿تَزَكَّى ﴾ تطهَّر من دنس الكفر. وقيل : قال لا إله إلا الله.
﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَـافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ﴾.
هذا استئناف إخبار عن شيء من أمر موسى عليه السلام وبينه وبين مقال السحرة المتقدم مدة من الزمان، حدث فيها لموسى وفرعون حوادث، وذلك أن فرعون لما انقضى أمر السحرة وغلب موسى وقَويَ أمره وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل، فأقام موسى على وعده حتى غدره فرعون ونكث وأعلمه أنه لا يرسلهم معه، فبعث الله حينئذ الآيات المذكورة في غير هذه الآيات الجراد والقمل إلى آخرها كلما جاءت آية وعد فرعون أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف العذاب، فإذا انكشف نكث حتى تأتي أخرى فلما كملت الآيات أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يخرج بني إسرائيل في الليل سارياً والسَري مسير الليل.
ويحتمل أنْ ﴿ءَانٍ﴾ تكون مفسرة وأن تكون الناصبة للمضارع و﴿بِعِبَادِى ﴾ إضافة تشريف لقوله ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ والظاهر أن الإيحاء إليه بذلك وبأن يضرب البحر كان متقدماً بمصر على وقت اتباع فرعون موسى وقومه بجنوده. وقيل : كان الوحي بالضرب حين قارب فرعون لحاقه وقوي فزع بني إسرائيل، ويروى أن موسى عليه السلام نهض ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف إنسان، فسار بهم من مصر يريد بحر القلزم، واتصل الخبر فرعون فجمع جنوده وحشرهم ونهض وراءه فأوحى الله إلى موسى أن يقصد البحر فجزع بنو إسرائيل، ورأوا أن العدو من ورائهم والبحر من أمامهم وموسى يثق بصنع الله، فلما رآهم فرعون قد نهضوا نحو البحر طمع فيهم وكان مقصدهم إلى موضع ينقطع فيه الفحوص والطرق الواسعة. قيل : وكان في خيل فرعون سبعون ألف أدهم ونسبة ذلك من سائر الألوان. وقيل : أكثر من هذا فضرب موسى عليه السلام البحر فانفرق اثنتي عشرة فرقة طرقاً واسعة بينها حيطان الماء واقفة، ويدل عليه فكان كل فرق كالطود العظيم. وقيل : بل هو طريق واحد لقوله ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا﴾ انتهى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٥٦
وقد يراد بقوله ﴿طَرِيقًا﴾ الجنس فدخل موسى عليه السلام بعد أن بعث الله ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست ودخل بنو إسرائيل، ووصل فرعون إلى المدخل وبنو إسرائيل كلهم في البحر فرأى الماء على تلك الحال فجزع قومه واستعظموا الأمر فقال لهم : إنما انفلق من هيبتي وتقدم غرق فرعون وقومه في سورة يونس. والظاهر
٢٦٣
أن لفظة اضرب هنا على حقيقتها من مس العصا بقوّة، وتحامل على العصا ويوضحه في آية أخرى ﴿أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَا فَانفَلَقَ﴾ فالمعنى أن اضرب بعصاك البحر لينفلق لهم فيصير طريقاً فتعدى إلى الطريق بدخول هذا المعنى لما كان الطريق متسبباً عن الضرب جعل كأنه المضروب.
وقال الزمخشري :﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا﴾ فاجعل لهم من قولهم : ضرب له في ماله سهماً، وضرب اللبن عمله انتهى. وفي الحديث :"اضربوا لي معكم بسهم". ولما لم يذكر المضروب حقيقة وهو البحر، ولو كان صرّح بالمضروب حقيقة لكان التركيب طريقاً فيه، فكان يعود على البحر المضروب و﴿يَبَسًا﴾ مصدر وصف به الطريق وصفه بما آل إليه إذ كان حالة الضرب لم يتصف باليبس بل مرت عليه الصبا فجففته كما روي، ويقال : يبس يبساً ويبساً كالعدم والعدم ومن كونه مصدراً وصف به المؤنث قالوا : شاة يبس وناقة يبس إذا جف لبنها. وقرأ الحسن يَبْساً بسكون الباء. قال صاحب اللوامح : قد يكون مصدراً كالعامة وقد يكون بالإسكان المصدر وبالفتح الاسم كالنفض. وقال الزمخشري : لا يخلو اليبس من أن يكون مخففاً عن اليبس أو صفة على فعل أو جمع يابس كصاحب وصحب، وصف به الواحد تأكيداً لقوله ومعاً جياعاً جعله لفرط جوعه كجماعة جياع انتهى. وقرأ أبو حيوة : يابساً اسم فاعل.


الصفحة التالية
Icon