وقيل : هذا الجواب على قدر السؤال لما أمر الله آدم بسكنى الجنة قال : إلهي ألي فيها ما آكل ؟ ألي فيها ما ألبس ؟ ألي فيها ما أشرب ؟ ألي فيها ما أستظل به ؟ وقيل : هي مقابلة معنوية، فالجوع خلو الباطن، والتعري خلو الظاهر، والظمأ إحراق الباطن، والضحو إحراق الظاهر فقابل الخلو بالخول والإحراق بالإحراق. وقيل : جمع امرؤ القيس في بيتيه بين ركوب الخيل للذة والنزهة، وبين تبطن الكاعب للذة الحاصلة فيهما، وجمع بين سباء الرق وبين قوله لخيله كري لما فيهما من الشجاعة ولما عيب على أبي الطيب قوله :
وقفت وما في الموت شك لواقفكأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال هَزْمَى كليمةووجهك وضاح وثغرك باسم
فقال : إن كنت أخطأت فقد أخطأ امرؤ القيس. وتقدم الكلام في ﴿فَوَسْوَسَ﴾ والخلاف في كيفيتها في الأعراف، وتعدى وسوس هنا بإلى وفي الأعراف باللام، فالتعدي بإلى معناه أنهى الوسوسة إليه والتعدّي بلام الجر، قيل معناه : لأجله ولما وسوس إليه ناداه باسمه ليكون أقبل عليه وأمكن للاستماع، ثم عرض عليه ما يلقى بقوله ﴿هَلْ أَدُلُّكَ﴾ على سبيل الاستفهام الذي يشعر بالنضح. ويؤثر قبول من يخاطبه كقول موسى ﴿هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ﴾ وهو عرض فيه مناصحة، وكان آدم قد رغبه الله تعالى في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله ﴿فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا﴾ الآية ورغبة إبليس في دوام الراحة بقوله :﴿هَلْ أَدُلُّكَ﴾ فجاءه إبليس من الجهة التي رغبه الله فيها. وفي الأعراف ﴿مَا نَهَـاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـاذِهِ الشَّجَرَةِ﴾. وهنا ﴿هَلْ أَدُلُّكَ﴾ والجمع بينهما أن قوله ﴿هَلْ أَدُلُّكَ﴾ يكون سابقاً على قوله ﴿مَا نَهَـاكُمَا﴾ لما رأى إصغاءه وميله إلى ما عرض عليه انتقل إلى الإخبار والحصر.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٧٠
ومعنى ﴿عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾ أي الشجرة التي مَن أكل منها خلد وحصل له ملك لا يخلق، وهذا يدل لقراءة الحسن بن عليّ وابن عباس إلا أن تكونا ملكين بكسر اللام ﴿فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ تقدم الكلام على نحو هذه الآية في الأعراف ﴿ءَادَمُ رَبَّه فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَـاهُ رَبُّه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ قال الزمخشري عن ابن عباس : لا شبهة في أن آدم صلوات الله عليه لم يمتثل ما رسم الله له وتخطى فيه ساحة الطاعة، وذلك هو العصيان. ولما عصى خرج فعله من أن يكون رشداً وخيراً فكان غياً لا محالة لأن الغيَّ خلاف الرشد. ولكن قوله ﴿وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّه فَغَوَى ﴾ بهذا الإطلاق وهذا التصريح، وحيث لم يقل وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك مما يعبر به عن الزلات والفرطات فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة، وكأنه قيل لهم : انظروا واعتبروا كيف نعتب على النبيّ المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلظة وبهذا اللفظ الشنيع، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات والصغائر فضلاً عن أن تجسروا عن التورط في الكبائر، وعن بعضهم ﴿فَغَوَى ﴾ فسئم من كثرة الأكل، وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المسكور ما قبلها ألفاً فيقول في فنى وبقى فنا وبقا، وهم بنو طيىء تفسير خبيث انتهى.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي : لا يجوز لأحدنا اليوم أن يخبر بذلك عنه عليه
٢٨٥
السلام إلاّ إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى أو قول نبيه عليه السلام، فإما أن يبتدىء ذلك من قبل نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا المماثلين لنا، فكيف ففي أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبيّ المقدم الذي اجتباه الله وتاب عليه وغفر له. قال القرطبي : وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز والإخبار عن صفات الله كاليد والرجل والأصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلاّ في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسول عليه السلام، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس : من وصف شيئاً من ذات الله مثل قوله تعالى ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه لأنه شبه الله سبحانه بنفسه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٧٠