﴿ثُمَّ اجْتَبَـاهُ﴾ أي اصطفاه وقربه وتاب عليه أي قبل توبته ﴿وَهَدَى ﴾ أي هداه للنبوة أو إلى كيفية التوبة، أو هداه رشده حتى رجع إلى الندم. والضمير في ﴿اهْبِطَا﴾ ضمير تثنية وهو أمر لآدم وحواء جعل هبوطهما عقوبتهما و﴿جَمِيعًا﴾ حال منهما. وقال ابن عطية : ثم أخبرهما بقوله ﴿جَمِيعًا﴾ أن إبليس والحية مهبطان معهما، وأخبرهما أن العداوة بينهم وبين أنسالهم إلى يوم القيامة انتهى. ولا يدل قوله ﴿جَمِيعًا﴾ أن إبليس والحية يهبطان معهما لأن ﴿جَمِيعًا﴾ حال من ضمير الاثنين أي مجتمعين، والضمير في ﴿بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ ضمير جمع. قيل : يريد إبليس وبنيه وآدم وبنيه. وقيل : أراد آدم وذريته، فالعداوة واقعة بينهم والبغضاء لاختلاف الأديان وتشتت الآراء. وقيل : آدم وإبليس والحية. وقال أبو مسلم الأصبهاني : الخطاب لآدم عليه السلام ولكونهما جنسين صح قوله ﴿اهْبِطَا﴾ ولأجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة صح قوله ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى﴾.
وقال الزمخشري : لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلي البشر والسببين اللذين منهما نشؤوا وتفرعوا جعلا كأنهما البشر في أنفسهما فخوطبا مخاطبتهم، فقيل ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم﴾ على لفظ الجماعة، ونظيره إسنادهم الفعل إلى السبب وهو في الحقيقة للمسبب انتهى. و﴿هُدًى﴾ شريعة الله. وعن ابن عباس ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ﴾ والمعنى أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين، فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه. وعن ابن جبير من قرأ القرآن واتبع ما فيه عصمه الله من الضلالة ووقاه سوء الحساب. وقال أبو عبد الله الرازي : وهذه الآية تدل على أن المراد بالهدى الذي ذكره الله تعالى اتباع الأدلة واتباعها لا يتكامل إلاّ بأن يستدل بها، وبأن يعمل بها، ومن هذه حاله فقد ضمن تعالى أن لا يضل ولا يشقى في الآخرة لأنه تعالى يهديه إلى الجنة. وقيل ﴿لا يَضِلُّ﴾ في الدنيا. فإن قيل : المنعم بهدى الله قد يلحقه الشقاء في الدنيا. قلنا : المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين فإن حصل بسبب آخر فلا بأس انتهى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٧٠
ولما ذكر تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض عن ذكره، والذكر يقع على القرآن وعلى سائر الكتب الإلهية. وضنك : مصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، والمعنى النكد الشاق من العيش والمنازل ومواطن الحرب نحوها. ومنه قول عنترة :
إن المنية لو تمثل مثلتمثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
وعن ابن عباس : نزلت هذه الآية في الأسود بن عبد الأسد المخزومي، والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه. وقال الحسن وقتادة والكلبي : هو الضيق في الآخرة في جهنم فإن طعامهم فيها الضريع والزقوم وشرابهم الحميم والغسلين، ولا يموتون فيها ولا يحيون، وقال عطاء : المعيشة الضنك معيشة
٢٨٦
الكافر لأنه غير موقن بالثواب والعقاب. وقال ابن جبير : يسلب القناعة حتى لا يشبع. وقال أبو سعيد الخدري والسدّي : هو عذاب القبر، ورواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم. وقال الجوهري : المعيشة الضنك في الدنيا، والمعنى أن الكافر وإن كان متسع الحال والمال فمعه من الحرص والأمل والتعذيب بأمور الدنيا والرغبة وامتناع صفاء العيش لذلك ما تصير معيشته ضنكاً وقالت فرقة ﴿ضَنكًا﴾ بأكل الحرام.
ويستدل على أن المعيشة الضنك قبل يوم القيامة ﴿وَنَحْشُرُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ أَعْمَى ﴾ وقوله :﴿وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ فكأنه ذكر نوعاً من العذاب، ثم ذكر أن عذاب الآخرة أشد وأبقى، وحسن قول الجمهور الزمخشري فقال : ومعنى ذلك أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته، فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة فيعيش عيشاً طيباً كما قال تعالى ﴿فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَواةً طَيِّبَةً﴾ والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطيح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك وحاله مظلمة انتهى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٧٠