الكفرة يقال : مد البصر إلى ما متع به الكفار، يقال : مد نظره إليه إذا أدام النظر إليه، والفكرة في جملته وتفصيله. قيل : والمعنى على هذا ولا تعجب يا محمد مما متعناهم به من مال وبنين ومنازل ومراكب وملابس ومطاعم، فإنما ذلك كله كالزهرة التي لا بقاء لها ولا دوام، وإنها عما قليل تفنى وتزول. والخطاب وإن كان في الظاهر للرسول صلى الله عليه وسلّم فالمراد أمته هو كان صلى الله عليه وسلّم أبعد شيء عن النظر في زينة الدنيا وأعلق بما عند الله من كل أحد، وهو القائل في الدنيا "ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه الله" وكان شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زخرفها ﴿وَلا تَمُدَّنَّ﴾ أبلغ من لا تنظر لأن مد البصر يقتضي الإدامة والاستحسان بخلاف النظر، فإنه قد لا يكون ذلك معه والعين لا تمدّ فهو على حذف مضاف أي ﴿لا تَمُدَّنَّ﴾ نظر ﴿عَيْنَيْكَ﴾ والنظر غير الممدد معفو عنه. وذلك مثل من فاجأ الشيء ثم غض بصره. والنظر إلى الزخارف مركوز في الطبائع فمن رأى منها شيئاً أحب إدمان النظر إليه، وقد شدّد المتقون في غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة مركوباً وملبوساً وغيرهما لأنهم إنما اتخذوها لعيون النظارة حتى يفتخروا بها، فالناظر إليها محصل لغرضهم وكالمغرى لهم على اتخاذها. وانتصب ﴿أَزْوَاجًا﴾ على أنه مفعول به، والمعنى أصنافاً من الكفرة و﴿مِنْهُم﴾ في موضع الصفة لأزواجاً أي أصنافاً وأقواماً من الكفرة. كما قال :﴿وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِا أَزْوَاجٌ﴾.
وأجاز الزمخشري أن ينتصب ﴿أَزْوَاجًا﴾ عن الحال من ضمير ﴿بِهِ﴾ و﴿مَتَّعْنَا﴾ مفعوله منهم كأنه قيل إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم، وناساً منهم. و﴿زَهْرَةَ﴾ منصوب على الذم أو مفعول ثان لمتعنا على تضمينه معنى أعطينا أو بدل من محل الجار والمجرور، أو بدل من ﴿أَزْوَاجًا﴾ على تقدير ذوي زهرة، أو جعلهم ﴿زَهْرَةَ﴾ على المبالغة أو منصوب بفعل محذوف يدل عليه ﴿مَتَّعْنَا﴾ أي جعلنا لهم ﴿زَهْرَةَ﴾ أو حال من الهاء، أو ما على تقدير حذف التنوين من ﴿زَهْرَةَ﴾ لالتقاء الساكنين وخبر ﴿الْحَيَواةَ﴾ على البدل من ﴿مَا﴾ وكل هذه الأعاريب منقول والأخير اختاره مكي، وردّ كونه بدلاً من محل ﴿مَا﴾ لأن فيه الفصل بالبدل بين الصلاة وهي ﴿مَتَّعْنَا﴾ ومعمولها وهو ﴿لِنَفْتِنَهُمْ﴾ فالبدل وهو ﴿زَهْرَةَ﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٧٠
وقرأ الجمهور ﴿زَهْرَةَ﴾ بسكون الهاء. وقرأ الحسن وأبو البر هشيم وأبو حيوة وطلحة وحميد وسلام ويعقوب وسهل وعيسى والزهري بفتحها. وقرأ الأصمعي عن نافع لِنُفْتِنَهم بضم النون من أفتنه إذا جعل الفتنة واقعة فيه، والزهرة والزهرة بمعنى واحد كالجهرة والجهرة. وأجاز الزمخشري في ﴿زَهْرَةَ﴾ المفتوح الهاء أن يكون جمع زاهر نحو كافر وكفرة، وصفهم بأنهم زاهر وهذه الدنيا الصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون وتهلل وجوههم وبهاء زيهم وشارتهم بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب، ومعنى ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ أي لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب لوجود الكفران منهم أو لنعذبهم في الآخرة بسببه.
﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ أي ما ذخر لهم من المواهب في الآخرة ﴿خَيْرٌ﴾ مما متع به هؤلاء في الدنيا ﴿وَأَبْقَى ﴾ أي أدوم. وقيل : ما رزقهم وإن كان قليلاً خير مما رزقوا وإن كان كثير الحلية ذلك وحرمية هذا. وقيل : ما رزقت من النبوة والإسلام. وقيل : ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد والغنائم. وقيل : القناعة. وقيل : ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا.
ولما أمره تعالى بالتسبيح في تلك الأوقات المذكورة ونهاه عن مد بصره إلى ما متع به الكفار أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة التي هي بعد الشهادة آكد أركان الإسلام، وأمره بالاصطبار على مداومتها ومشاقها وأن لا يشتغل عنها، وأخبره تعالى أن لا يسأله أن يرزق نفسه وأن لا يسعى في تحصيل الرزق ويدأب في ذلك، بل أمره بتفريغ باله لأمر الآخرة ويدخل في خطابه عليه السلام أمته. وقرأ الجمهور ﴿نَرْزُقُكَ﴾ بضم القاف. وقرأت فرقة :
٢٩١
منهم وابن وثاب بإدغام القاف في الكاف وجاء ذلك عن يعقوب. قال صاحب اللوامح : وإنما امتنع أبو عمرو من إدغام مثله بعد إدغامه ﴿نَرْزُقُكُمْ﴾ ونحوها لحلول الكاف منه طرفاً وهو حرف وقف، فلو حرك وقفاً لكان وقوفه على حركة وكان خروجاً عن كلامهم. ولو أشار إلى الفتح لكان الفتح أخف من أن يتبعض بل خروج بعضه كخروج كله، ولو سكن لأجحف بحرف. ولعل من أدغم ذهب مذهب من يقول جعفر وعامر وتفعل فيشدد وقفاً أو أدغم على شرط أن لا يقف بحال فيصير الطرف كالحشو انتهى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٧٠