هذه الأقوال الخمسة وترتيب كلامهم أن كونه بشراً مانع من كونه رسولاً لله سلمنا أنه غير مانع، ولكن لا نسلم أن هذا القرآن ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدار البشر قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك سحراً وإن لم يساعد عليه فإن ادعينا كونه في نهاية الركاكة قلنا إنه أضغاث أحلام، وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة قلنا إنه افتراء، وإن ادعينا أنه كلام فصيح قلنا إنه من جنس فصاحة سائر الشعر، وعلى جميع هذه التقديرات لا يثبت كونه معجزاً.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٩٣
ولما فرغوا من تقدير هذه الاحتمالات قالوا ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَـاثُ أَحْلَـاما بَلِ﴾ اقترحوا من الآيات ما لا إمهال بعدها كالآيات في قوله ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارْضِ يَنابُوعًا﴾ قال الزمخشري : صحة التشبيه في قوله ﴿كَمَآ أُرْسِلَ الاوَّلُونَ﴾ من حيث إنه في معنى كما أتى الأولون بالآيات، لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات، ألا ترى أنه لا فرق بين أن تقول أتى محمد بالمعجزة، وأن تقول : أرسل محمد بالمعجزة انتهى. والكاف في ﴿كَمَآ أُرْسِلَ﴾ يجوز أن يكون في موضع النعت لآية، وما أرسل في تقدير المصدر والمعنى بآية مثل آية إرسال ﴿الاوَّلِينَ﴾، ويجوز أن يكون في النعت لمصدر محذوف أي إتياناً مثل إرسال ﴿الاوَّلِينَ﴾ أي مثل إتيانهم بالآيات، وهذه الآية التي طلبوها هي على سبيل اقتراحهم، ولم يأت الله بآية مقترحة إلا أتى بالعذاب بعده. وأراد تعالى تأخير هؤلاء وفي قولهم ﴿كَمَآ أُرْسِلَ الاوَّلُونَ﴾ دلالة على معرفتهم بإتيان الرسل.
ثم أجاب تعالى عن قولهم ﴿بَلْ قَالُوا ﴾ بقوله ﴿مَآ ءَامَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَآا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ والمراد بهم قوم صالح وقوم فرعون وغيرهما، ومعنى ﴿أَهْلَكْنَـاهَآ﴾ حكمنا بإهلاكها بما اقترحوا من الآيات ﴿أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ استبعاد وإنكارأي هؤلاء أعني من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها، فلما جاءتهم نكثوا فأهلكهم الله، فلو أعطينا هؤلاء ما اقترحوا لكانوا أنكث من أولئك، وكان يقع استئصالهم ولكن حكم الله تعالى بإبقائهم ليؤمن من آمن ويخرج منهم مؤمنين.
ولما تقدم من قولهم ﴿هَلْ هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ وأن الرسول لا يكون إلاّ من عند الله من جنس البشر قال تعالى راداً عليهم ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا﴾ أي بشراً ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا، ثم أحالهم على ﴿أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ فإنهم وإن كانوا مشايعين للكفار ساعين في إخماد نور الله لا يقدرون على إنكار إرسال البشر. وقوله ﴿إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ من حيث إنّ قريشاً لم يكن لها كتاب سابق ولا إثارة من علم. والظاهر أن ﴿أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ هم أحبار أهل الكتابين وشهادتهم تقوم بها الحجة في إرسال الله البشر هذا مع موافقة قريش في ترك الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلّم، فشهادتهم لا مطعن فيها. وقال عبد الله بن سلام : أنا من أهل الذكر. وقيل : هم أهل القرآن. وقال علي : أنا من أهل الذكر. وقال ابن عطية : لا يصلح أن يكون المسؤول أهل القرآن في ذلك الوقت لأنهم كانوا خصومهم انتهى. وقيل ﴿أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ هم أهل التوراة. وقيل : أهل العلم بالسير وقصص الأمم البائدة والقرون السالفة، فإنهم كانوا يفحصون عن هذه الأشياء وإذا كان ﴿أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ أريد بهم اليهود والنصارى فإنهم لما بلغ خبرهم حد التواتر جاز أن يسألوا ولا يقدح في ذلك كونهم كفاراً.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٩٣
وقرأ الجمهور : يوحي مبنياً للمفعول. وقرأ طلحة وحفص ﴿نُوحِى ﴾ بالنون وكسر الحاء ويقع على ما لا يتغذى من الجماد. وقيل : يقع على المتعذي وغيره، فعلى القول الأول يكون النفي قد وقع على وعلى الثاني يكون مثبتاً، والنفي إنما وقع على صفته ووحد الجسد لإرادة الجنس كأنه قال : ذوي ضرب من الأجساد، وهذا رد لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام، وهذه الجملة من تمام الجواب للمشركين الذين قالوا ﴿ظَلَمُوا هَلْ هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ لأن البشرية تقتضي الجسمية الحيوانية، وهذه لا بد لها من مادة
٢٩٨
تقوم بها، وقد خرجوا بذلك في قولهم ﴿هَلْ هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ يأكل مما تإكلون منه ويشرب مما تشربون، ولما أثبت أنهم كانوا أجساداً يأكلون الطعام بين أنهم مآلهم إلى الفناء والنفاد، ونفى عنهم الخلود وهو البقاء السرمدي أو البقاء المدة المتطاولة أي هؤلاء الرسل بشر أجساد يطعمون ويموتون كغيرهم من البشر، والذي صاروا به رسلاً هو ظهور المعجزة على أيديهم وعصمتهم من الصفات القادحة في التبليغ وغيره.