﴿ثُمَّ صَدَقْنَـاهُمُ الْوَعْدَ﴾ ذكر تعالى سيرته مع أنبيائه فكذلك يصدق نبيه محمداً صلى الله عليه وسلّم وأصحابه ما وعدهم به من النصر وظهور الكلمة، فهذه عدة للمؤمنين ووعيد للكافرين و﴿صَدَقْنَـاهُمُ الْوَعْدَ﴾ من باب اختار وهو ما يتعدى الفعل فيه إلى واحد وإلى الآخر بحرف جر، ويجوز حذف ذلك الحرف أي في ﴿الْوَعْدِ﴾ وهو باب لا ينقاس عند الجمهور، وإنما يحفظ من ذلك أفعال قليلة ذكرت في النحو ونظير ﴿صَدَقْنَـاهُمُ الْوَعْدَ﴾ قولهم : صدقوهم القتال وصدقني سن بكره وصدقت زيداً الحديث و﴿مَّن نَّشَآءُ﴾ هم المؤمنون، والمسرفون هم الكفار المفرطون في غيهم وكفرهم، وكل من ترك الإيمان فهو مفرط مسرف وإنجاؤهم من شر أعدائهم ومن العذاب الذي نزل بأعدائهم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٩٣
ولما توعدهم في هذه الآية أعقب ذلك بوعده بنعمته عليهم فقال ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَـابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ والكتاب هو القرآن. وعن ابن عباس :﴿ذِكْرُكُمْ﴾ شرفكم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وعن الحسن ذكر دينكم، وعن مجاهد فيه حديثكم، وعن سفيان مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم. وقيل : تذكرة لتحذروا ما لا يحل وترغبوا فيما يجب. وقال صاحب التحرير : الذي يقتضيه سياق الآيات أن المعنى فيه ذكر مشانئكم ومثالبكم وما عاملتهم به أنبياء الله من التكذيب والعناد، فعلى هذا تكون الآية ذماً لهم وليست من تعداد النعم عليهم، ويكون الكلام على سياقه ويكون معنى قوله ﴿هَلْ هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ إنكاراً عليهم على إهمالهم المتدبر والتفكر المؤديين إلى اقتضاء الغفلة. وقال ابن عطية : يحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما نذكر عظم الأمور، وفي هذا تحريض ثم أكد التحريض بقوله ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ وحركهم بذلك إلى النظر. وقال الزمخشري نحوه قال :﴿ذِكْرُكُمْ﴾ شرفكم وصيتكم كما قال ﴿وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ أو موعظتكم أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء، وحسن الذكر كحسن الجوار والوفاء بالعهد وصدق الحديث وأداء الأمانة والسخاء وما أشبه ذلك.
٢٩٩
﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ * فَلَمَّآ أَحَسُّوا بَأْسَنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَـاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْـاَلُونَ * قَالُوا يَـاوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَـالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَـاهُمْ حَصِيدًا خَـامِدِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا اتَّخَذْنَـاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَـاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَـاطِلِ فَيَدْمَغُه فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌا وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَه مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِا وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٩٣
لما رد الله تعالى عليهم ما قالوه بالغ تعالى في زجرهم بذكر ما أهلك من القرى، فقال :﴿وَكَمْ قَصَمْنَا﴾ والمراد أهلها إذ لا توصف القرية بالظلم كقوله ﴿مِنْ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾ قال ابن عباس : الإنشاء إيجاد الشيء من غير سبب أنشأه فنشأ وهو ناشىء والجمع نشاء كخدم، والقصم أفظع الكسر عبر به عن الإهلاك الشديد ﴿وَكَمْ﴾ تقتضي التكثير، فالمعنى كثيراً من أهل القرى أهلكنا إهلاكاً شديداً مبالغاً فيه. وما روي عن ابن عباس أنها حضوراء قرية باليمن، وعن ابن وهب عن بعض رجاله أنهما قريتان باليمن بطر أهلهما فيحمل على سبيل التمثيل لا على التعيين في القرية، لأن ﴿كَمْ﴾ تقتضي التكثير. ومن حديث أهل حضوراء أن الله بعث إليهم نبياً فقتلوه، فسلط الله عليهم بخت نصر كما سلطه على أهل بيت المقدس بعث إليهم جيشاً فهزموه، ثم بعث آخر فهزموه، ثم خرج إليهم بنفسه فهزمهم في الثالثة، فلما أخذ القتل فيهم ركضوا هاربين.