و﴿اتَّخَذُوا ﴾ هنا يحتمل أن يكون المعنى فيها صنعوا وصوروا، و﴿مِّنَ الارْضِ﴾ متعلق باتخذوا، ويحتمل أن يكون المعنى جعلوا الآلهة أصناماً من الأرض كقوله ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِامُ﴾ وقوله ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا﴾ وفيه معنى الإصطفاء والاختيار. وقرأ الجمهور :﴿يُنشِرُونَ﴾ مضارع أنشر ومعناه يحيون. وقال قطرب : معناه يخلقون كقوله ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ﴾. وقرأ الحسن ومجاهد ﴿يُنشِرُونَ﴾ مضارع نشر، وهما لغتان نشر وانشر متعديان، ونشر يأتي لازماً تقول أنشر الله الموتى فنشروا أي فحيوا، والضمير في ﴿فِيهِمَآ﴾ عائد على السماء والأرض وهما كناية عن العالم. و﴿إِلا﴾ صفة لآلهة أي آلهة غير ﴿اللَّهِ﴾ وكون ﴿إِلا﴾ يوصف بها معهود في لسان العرب ومن ذلك ما أنشد سيبويه رحمه الله :
وكل أخ مفارقه أخوهلعمر أبيك إلا الفرقدان
قال الزمخشري : فإن قلت : ما منعك من الرفع على البدل ؟ قلت : لأن لو بمنزلة إن في أن الكلام معه موجب والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب كقوله ﴿وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ﴾ وذلك لأن أعم العام يصح نفيه ولا يصح إيجابه، والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما ﴿لَفَسَدَتَا ﴾ وفيه دلالة على أمرين أحدهما : وجوب أن لا يكون مدبرهما إلاّ واحداً، والثاني أن لا يكون ذلك الواحد إلاّ إياه وحده كقوله ﴿إِلا اللَّهُ﴾.
فإن قلت : لم وجب الأمران
٣٠٤
قلت : لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف.
وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق كان والله أعز عليّ من دم ناظري ولكن لا يجتمع فحلان في شول وهذا ظاهر. وأما طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجادل وطراد ولأن هذه الأفعال محتاجة إلى تلك الذات المتميزة بتلك الصفات حتى تثبت وتستقر. وقال ابن عطية : وذلك بأنه كان يبغي بعضهم على بعض ويذهب بما خلق، واقتضاب القول في هذا أن الهين لو فرضنا بينهما الاختلاف في تحريك جسم ولا تحريكه فمحال أن تتم الإرادتان، ومحال أن لا تتم جميعاً، وإذا تمت الواحدة كان صاحب الأخرى عاجزاً وهذا ليس بإله، وجواز الاختلاف عليهما بمنزلة وقوعه منهما، ونظر آخر وذلك أن كل جزء يخرج من العدم إلى الوجود فمحال أن تتعلق به قدرتان، فإذا كانت قدرة أحدهما توجده ففي الآخر فضلاً لا معنى له في ذلك الجزء ثم يتمادى النظر هكذا جزأ جزأ.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٩٣
وقال أبو عبد الله الرازي : لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لذاتهما فلا بد أن يشتركا في الوجود ولا بد أن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بمعيته وما به المشاركة غير ما به الممايزة، فيكون كل واحد مشاركاً للآخر وكل مركب فهو مفتقر إلى آخر ممكن لذاته، فإذا واجب الوجود ليس إلاّ واحداً فكل ما عدا هذا فهو محدث، ويمكن جعل هذا تفسيراً لهذه الآية لأنا لما دللنا على أنه يلزم من فرض موجودين واجبين أن لا يكون شيء منهما واجباً، وإذا لم يوجد الواجب لم يوجد شيء من هذه الممكنات، فحينئذ يلزم الفساد في كل العالم.
وقال أبو البقاء : لا يجوز أن يكون بدلاً لأن المعنى يصير إلى قولك ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ﴾ الله ﴿لَفَسَدَتَا ﴾ ألا ترى أنك لو قلت : ما جاءني قومك إلاّ زيد على البدل لكان المعنى جاءني زيد وحده. وقيل : يمتنع البدل لأن ما قبله إيجاب ولا يجوز النصب على الاسثناء لوجهين، أحدهما أنه فاسد في المعنى وذلك أنك إذا قلت : لو جاءني القوم إلاّ زيداً لقتلهم كان معناه أن القتل امتنع لكون زيد مع القوم، فلو نصب في الآية لكان المعنى فساد السموات والأرض امتنع لوجود الله مع الآلهة، وفي ذلك إثبات الإله مع الله، وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مثل ذلك لأن المعنى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ﴾ غير ﴿اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾. والوجه الثاني أن ﴿ءَالِهَةً﴾ هنا نكرة، والجمع إذا كان نكرة لم يستثن منه عند جماعة من المحققين لأنه لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء انتهى. وأجاز أبو العباس المبرد في ﴿إِلا اللَّهُ﴾ أن يكون بدلاً لأن ما بعد لو غير موجب في المعنى، والبدل في غير الواجب أحسن من الوصف. وقد أمعنّا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل. وقال الأستاذ أبو عليّ الشلوبين في مسألة سيبويه : لو كان معنا رجل إلاّ زيد لغلبنا أن المعنى لو كان معنا رجل مكان زيد لغلبنا فإلا بمعنى غير التي بمعنى مكان. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ : لا يصح المعنى عندي إلاّ أن تكون ﴿إِلا﴾ في معنى غير الذي يراد بها البدل أي ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ﴾ عوض واحد أي بدل الواحد الذي هو ﴿اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ وهذا المعنى أراد سيبويه في المسألة التي جاء بها توطئة انتهى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٩٣