﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَـاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِى الارْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ ءَايَـاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَا كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَا أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَـالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِا وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةًا وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٩٣
هذا استفهام توبيخ لمن ادعى مع الله آلهة، ودلالة على تنزيهه عن الشريك، وتوكيد لما تقدم من أدلة التوحيد، ورد على عبدة الأوثان من حيث أن الإله القادر على هذه المخلوقات المتصرف فيها التصرف العجيب، كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع والرؤية هنا من رؤية القلب. وقيل : من رؤية البصر وذلك على الاختلاف في الرتق والفتق. وقرأ ابن كثير وحميد وابن محيصن ألم يَرَ بغير واو العطف والجمهور ﴿أَوَ لَمْ﴾ بالواو. ﴿كَانَتَا﴾ قال الزجاج : السموات جمع أريد به الواحد، ولهذا قال ﴿كَانَتَا رَتْقًا﴾ لأنه أراد السماء والأرض، ومنه أن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا جعل السموات نوعاً والأرضين نوعاً، فأخبر عن النوعين كما أخبر عن اثنين كما تقول : أصلحت بين القوم ومر بنا غنمان أسودان لقطيعي غنم. وقال الحوفي : قال ﴿كَانَتَا رَتْقًا﴾ والسموات جمع لأنه أراد الصنفين، ومنه قول الأسود بن يعفر :
إن المنية والحتوف كلاهمايوفي المحارم يرقبان سوادي
لأنه أراد النوعين. وقال أبو البقاء : الضمير يعود على الجنسين. وقال الزمخشري : وإنما قال ﴿كَانَتَا﴾ دون كنّ لأن المراد جماعة ﴿السَّمَـاوَاتِ﴾ وجماعة ﴿الارْضُ﴾ ونحوه قولهم : لقاحان سوداوان إن أراد جماعتان فعل في المضمر ما فعل في المظهر. وقال ابن عطية : وقال ﴿كَانَتَا﴾ من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شييم :
ألم يحزنك أن جبال قيسوتغلب قد تباينت انقطاعا
قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة : كانتا شيئاً واحداً ففصل الله بينهما بالهواء. وقال كعب : خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحاً بوسطها ففتحها بها وجعل السموات سبعاً والأرضين سبعاً. وقال مجاهد والسدّي وأبو صالح : كانت السموات والأرض مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرضون كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها وجعلها سبعاً. وقالت فرقة : السموات والأرض رتق بالظلمة وفتقها الله بالضوء. وقالت فرقة : السماء قبل المطر رتق، والأرض قبل النبات رتق ﴿فَفَتَقْنَـاهُمَا ﴾ بالمطر والنبات كما قال ﴿وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالارْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ قال ابن عطية : وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة للمحسوس بين، ويناسب قوله ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ﴾ أي من الماء الذي أوجده الفتق انتهى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٩٣
وعلى هذين القولين تكون الرؤية من البصر وعلى ما قبلهما من رؤية القلب، وجاء تقريرهم بذلك لأنه
٣٠٨
وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد، ولأن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من مخصص، وهو الله سبحانه وقرأ الجمهور ﴿رَتْقًا﴾ بسكون التاء وهو مصدر يوصف به كزور وعدل فوقع خبراً للمثنى. وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وأبو حيوة وعيسى ﴿رَتْقًا﴾ بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالقبض والنفض، فكان قياسه أن يبني ليطابق الخبر الاسم. فقال الزمخشري : هو على تقدير موصوف أي ﴿كَانَتَا﴾ شيئاً ﴿رَتْقًا﴾. وقال أبو الفضل الرازي : الأكثر في هذا الباب أن يكون المتحرك منه اسماً بمعنى المفعول والساكن مصدر، أو قد يكونان مصدرين لكن المتحرك أولى بأن يكون في معنى المفعول لكن هنا الأولى أن يكونا مصدرين فأقيم كل واحد منهما مقام المفعولين، ألا ترى أنه قال ﴿كَانَتَا رَتْقًا﴾ فلو جعلت أحدهما اسماً لوجب أن تثنيه فلما قال ﴿رَتْقًا﴾ كان في الوجهين كرجل عدل ورجلين عدل وقوم عدل انتهى.
﴿وَجَعَلْنَا﴾ إن تعدت لواحد كانت بمعنى ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ﴾ كل حيوان أي مادته النطفة قاله قطرب وجماعة أو لما كان قوامه الماء المشروب وكان محتاجاً إليه لا يصبر عنه جعل مخلوقاً منه كقوله ﴿خُلِقَ الانْسَـانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ قاله الكلبي وغيره، وتكون الحياة على هذا حقيقة ويكون كل شيء عاماً مخصوصاً إذ خرج منه الملائكة والجن وليسوا مخلوقين من نطفة ولا محتاجين للماء.


الصفحة التالية
Icon