وقال قتادة : أي خلقنا كل نام من الماء فيدخل فيه النبات والمعدن، وتكون الحياة فيهما مجازاً أو عبر بالحياة عن القدر المشترك بينهما وبين الحيوان وهو النموّ ويكون أيضاً على هذا عاماً مخصوصاً، وإن تعدّت ﴿جَعَلْنَا﴾ لاثنين فالمعنى صيرنا ﴿كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ﴾ بسبب من الماء لا بد له منه. وقرأ الجمهور ﴿حَىٍّ﴾ بالخفض صفة لشيء. وقرأ حميد حياً بالنصب مفعولاً ثانياً لجعلنا، والجار والمجرور لغو أي ليس مفعولاً ثانياً ﴿لَّجَعَلْنَا﴾ ﴿أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ استفهام إنكار وفيه معنى التعجب من ضعف عقولهم، والمعنى أفلا يتدبرون هذه الأدلة ويعملوا بمقتضاها ويتركوا طريقة الشرك، وأطلق الإيمان على سببه وقد انتظمت هذه الآية دليلين من دلائل التوحيد وهي من الأدلة السماوية والأرضية.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٩٣
ثم ذكر دليلاً آخر من الدلائل الأرضية فقال :﴿وَجَعَلْنَا فِى الارْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ﴾ وتقدم شرح نظير هذه الجملة في سورة النحل ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا﴾ وهذا دليل رابع من الدلائل الأرضية، والظاهر أن الضمير في ﴿فِيهَا﴾ عائد على الأرض. وقيل يعود على الرواسي، وجاء هنا تقديم ﴿فِجَاجًا﴾ على قوله ﴿سُبُلا﴾ وفي سورة نوح ﴿لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا﴾. فقال الزمخشري : وهي يعني ﴿فِجَاجًا﴾ صفة ولكن جعلت حالاً كقوله :
لمية موحشاً ظلل
يعني أنها حال من سبل وهي نكرة، فلو تأخر ﴿فِجَاجًا﴾ لكان صفة كما في تلك الآية ولكن تقدم فانتصب على الحمال قال : فإن قلت : ما الفرق بينهما من جهة المعنى ؟ قلت : وجهان أحدهما إعلام بأنه جعل فيها طرقاً واسعة، والثاني بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثمة انتهى. يعني بالإبهام أن الوصف لا يلزم أن يكون الموصوف متصفاً به حالة الإخبار عنه، وإن كان الأكثر قيامه به حالة الإخبار عنه، ألا ترى أنه يقال : مررت بوحشي القاتل حمزة، فحالة المرور لم يكن قائماً به قتل حمزة، وأما الحال فهي هيئة ما تخبر عنه حالة لإخبار ﴿لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ في مسالكهم وتصكرفهم. وما رفع وسمك على شيء فهو سقف. قال قتادة : حفظ من البلي والتغير على طول الدهر. وقيل : حفظ من السقوط لإمساكه من غير علاقة ولا عماد. وقيل : حفظ من الشرك والمعاصي. وقال الفراء : حفظ من الشياطين بالرجوم. وعن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نظر إلى السماء فقال :"إن السماء سقف مرفوع وموح مكفوف يجري كما يجري السهم محفوظاً من الشياطين" وإذا صح هذا الحديث كان نصاً في معنى الآية.
٣٠٩
﴿وَهُمْ عَنْ ءَايَـاتِهَا﴾ أي عن ما وضع الله فيها من الأدلة والعبر بالشمس والقمر وسائر النيرات ومسايرها وطلوعها وغروبها على الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة. وقرأ الجمهور ﴿عَنْ ءَايَـاتِهَا﴾ بالجمع. وقرأ مجاهد وحميد عن آيتها بالإفراد، فيجوز أنه جعل الجعل أو السقف أو الخلق أي خلق السماء آية واحدة تحوي الآيات كلها، ويجوز أنه أراد بها الجمع فجعلها اسم الجنس، ودل على ذلك كثرة ما في السماء من الآيات. والمعنى ﴿وَهُمْ عَنْ﴾ الاعتبار بآياتها ﴿مُّعْرِضُونَ﴾ وقال الزمخشري : هم يتفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنياوية كالاستضاءة بقمريها والاهتداء بكواكبها وحياة الأرض والحيوان بأمطارها ﴿وَهُمْ عَنْ﴾ كونها آية بينة على الخالق ﴿مُّعْرِضُونَ﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٩٣
والتنوين في ﴿كُلِّ﴾ عوض من المضاف إليه، والفلك الجسم الدائر دورة اليوم والليلة. وعن ابن عباس والسدّي : الفلك السماء. وقال أكثر المفسرين : الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر. وقال قتادة : الفلك استدارة بين السماء والأرض يدور بالنجوم مع ثبوت السماء. وقيل : الفلك القطب الذي تدور عليه النجوم وهو قطب الشمال. وقيل : لكل واحد من السيارات فلك، وفلك الأفلاك يحركها حركة واحدة من المشرق إلى المغرب. وقال الضحاك : الفلك ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم، والظاهر أنه جسم وفيه الاختلاف المذكور والظاهر أن كلاًّ يسبح في فلك واحد. قيل : ولكل واحد فلك يخصه فهو كقولهم : كساهم الأمير حلة أي كسى كل واحد، وجاء ﴿يَسْبَحُونَ﴾ بواو الجمع العاقل، فأما الجمع فقيل ثم معطوف محذوف وهو والنجوم، ولذلك عاد الضمير مجموعاً ولو لم يكن ثم معطوف محذوف لكان يسبحان مثنى.


الصفحة التالية
Icon