ثم أضرب عن قولهم وأخبر عن الجد وأن المالك لهم والمستحق العبادة هو ربهم ورب هذا العالم العلوي والعالم السفلي المندرج فيه أنتم ومعبوداتكم نبه على الموجب للعبادة وهو منشىء هذا العالم ومخترعه من العدم الصرف. والظاهر أن الضمير في ﴿فَطَرَهُنَّ﴾ عائد على السموات والأرض، ولما لم تكن السموات والأرض تبلغ في العدد الكثير منه جاء الضمير ضمير القلة. وقيل في ﴿فَطَرَهُنَّ﴾ عائد على التماثيل. قال الزمخشري : وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم انتهى. وقال ابن عطية :﴿فَطَرَهُنَّ﴾ عبارة عنها كأنها تعقل، هذه من حيث لها طاعة وانقياد وقد وصفت في مواضع بما يوصف به من يعقل. وقال غير ﴿فَطَرَهُنَّ﴾ أعاد ضمير من يعقل لما صدر منهن من الأحوال التي تدل على أنها من قبيل من يعقل، فإن الله أخبر بقوله ﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاِعِينَ﴾ وقوله صلى الله عليه وسلّم :"أطلت السماء وحق لها أن تئط". انتهى. وكأن ابن عطية وهذا القائل تخيلاً أن هن من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات وليس كذلك بل هو لفظ مشترك بين من يعقل وما لا يعقل من المؤنث المجموع ومن ذلك قوله ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ والضمير عائد على الأربعة الحرم، والإشارة بقوله :﴿ذالِكُمْ﴾ إلى ربوبيته تعالى ووصفه بالاختراع لهذا العالم و﴿مِنْ﴾ للتبعيض أي الذين يشهدون بالربوبية كثيرون، وأنا بعض منهم أي ما قلته أمر مفروغ منه عليه شهود كثيرون فهو مقال مصحح بالشهود. و﴿عَلَى ذَالِكُمْ﴾ متعلق بمحذوف تقديره ﴿وَأَنَا﴾ شاهد ﴿عَلَى ذَالِكُم مِّنَ الشَّـاهِدِينَ﴾ أو على جهة البيان أي أعني ﴿عَلَى ذَالِكُمْ﴾ أو باسم الفاعل وإن كان في صلة أل لاتساعهم في الظرف والمجرور أقوال تقدمت في ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّـاصِحِينَ﴾ وبادرهم أولاً بالقول المنبه على دلالة العقل فلم ينتفعوا بالقول، فانتقل إلى القول الدال على الفعل الذي مآله إلى الدلالة التامّة على عدم الفائدة في عبارة ما يتسلط عليه بالكسر والتقطيع وهو لا يدفع ولا يضر ولا ينفع ولا يشعر بما ورد عليه من فك أجزائه فقال :﴿وَتَاللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَـامَكُم﴾ وقرأ الجمهور ﴿وَتَاللَّهِ﴾ بالتاء. وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل بالله بالباء بواحدة من أسفل. قال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين التاء والباء ؟ قلت : إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها، وإن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يبده وتأتيه لأن ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته وتعذره، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصاً في زمن نمروذ مع عتوّه واستكبار وقوّة سلطانه وتهالكه على نصر دينه ولكن.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣١٧
إذا الله سنى عقد شيء تيسرا
انتهى. أما قوله الباء هي الأصل إنما كانت أصلاً لأنها أوسع حروف القسم إذ تدخل على الظاهر، والمضمر ويصرح بفعل القسم معها وتحذف
٣٢١
وأما أن التاء بدل من واو القسم الذي أبدل من باء القسم فشيء قاله كثير من النحاة، ولا يقوم على ذلك دليل وقدر هذا القول السهيلي والذي يقتضيه النظر أنه ليس شيء منها أصفلا لآخر. وأما قوله : إن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب فنصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب، ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم.
والكيد الاحتيال في وصول الضرر إلى المكيد، والظاهر أن هذه الجملة خاطب بها أباه وقومه وأنها مندرجة تحت القول من قوله ﴿قَالَ بَل رَّبُّكُمْ﴾. وقيل : قال ذلك سرًّا من قومه وسمعه رجل واحد. وقيل : سمعه قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين. وقيل : اثنين وسبعين. وقرأ الجمهور ﴿تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ مضارع ولّى. وقرأ عيسى بن عمر ﴿تَوَلَّوْا ﴾ فحذف إحدى التاءين وهي الثانية على مذهب البصريين. والأولى على مذهب هشام وهو مضارع تولى وهو موافق لقوله ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ ومتعلق ﴿تَوَلَّوْا ﴾ محذوف أي إلى عيدكم. وروي أن آزر خرج به في يوم عيد لهم فبدؤوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم، وقالوا : لن ترجع بركة الآلهة على طعامنا فذهبوا، فلما كان في الطريق ثنى عزمه عن المسير معهم فقعد وقال : إني سقيم. وقال الكلبي : كان إبراهيم من أهل بيت ينظرون في النجوم، وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضاً فأتاهم إبراهيم بالذي هم فيه فنظر قبل يوم العيد إلى السماء وقال لأصحابه : إني أشتكي غداً وأصبح معصوب الرأس فخرجوا ولم يتخلف أحد غيره، وقال ﴿وَتَاللَّهِ لاكِيدَنَّ﴾ إلى آخره وسمعه رجل فحفظه ثم أخبر به فانتشر انتهى.