وقال الزمخشري : هذا من تعاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني، والقول فيه إن قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما قال لك صاحبك وقد كتبت إليه كتاباً بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط : أأنت كتبت هذا وصاحبك أميّ لا يحسن الخط أو لا يقدر إلاّ على خرمشة فاسدة ؟ فقلت له : بل كتبته أنت كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك ولا إثباته للأمي أو المخرمش لأن إثباته والأمر دائر بينكما للعاجز منكما استهزاءً وإثبات للقادر، ويجوز أن يكون حكاية لما يعود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعي إلهاً أن يقدر على هذا وأشد منه.
ويحكى أنه قال ﴿فَعَلَه كَبِيرُهُمْ﴾ هذا غضب أن يعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها انتهى. ومن جعل الفاعل بفعله ضميراً يعود على قوله فتى أو على ابراهيم أو قال آخر بغير المطابق لمصلحة دينية، واستدل بما روي في الحديث أو وقف على ﴿بَلْ فَعَلَهُ﴾ أي فعله من فعله وجعل ﴿كَبِيرُهُمْ هَـاذَا﴾ مبتدأ وخبراً وهو الكسائي أو أصله بمعنى لعله وخفف اللام وهو الفراء مستدلاً بقراءة ابن السميفع ﴿بَلْ فَعَلَهُ﴾ بمعنى لعله مشدد اللام فهم بعداء عن طريق الفصاحة ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ﴾ أي إلى عقولهم حين ظهر لهم ما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام من أن الأصنام التي أهلوها للعبادة ينبغي أن تسأل وتستفسر قبل، ويحتمل أن يكون ﴿فَرَجَعُوا ﴾ أي رجع بعضهم إلى بعض ﴿فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّـالِمُونَ﴾ في سؤالكم إبراهيم حين سألتموه ولم تسألوها ذكره ابن جرير، أو حين عبدتم ما لا ينطق قاله ابن عباس، أو حين لم تحفظوا آلهتكم قاله وهب، أو في عبادة الأصاغر مع هذا الكبير قاله وهب أيضاً أو حين أبهتهم إبراهيم والفأس في عنق الكبير قاله مقاتل وابن إسحاق أو ﴿الظَّـالِمُونَ﴾ حقيقة حيث نسيتم إبراهيم إلى الظلم في قولكم ﴿إِنَّه لَمِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ إذ هذه الأصنام مستحقة لما فعل بها.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣١٧
﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ أي ارتكبوا في ضلالهم وعلموا أن الأصنام لا تنطق فساءهم ذلك حين نبه على قيام الحجة عليهم وهي استعارة للذي يرتطم في غيه كأنه منكوس على رأسه وهي أقبح هيئة للإنسان، فكان عقله منكوس أي مقلوب لانقلاب شكله، وجعل أعلاه أسفله فرجوعهم إلى أنفسهم كناية عن استقامة فكرهم ونكسهم كناية عن مجادلتهم ومكابرتهم. ويحتمل أن يكون ﴿نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ كناية عن تطأطىء رؤوسهم وتنكيسها إلى الأرض على سبيل الخجل والانكسار مما بهتهم به إبراهيم من قول الحق ودمغهم به فلم يطيقوا جواباً.
﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ﴾ جواب قسم محذوف معمول لقول محذوف في موضع الحال أي قائلين ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـؤُلاءِ يَنطِقُونَ﴾ فكيف تقول لنا ﴿فَسْـاَلُوهُمْ﴾ إنما قصدت بذلك توبيخاً ويحتمل أن يكون النكس للفكرة فيما يجيبون به. وقال مجاهد ﴿نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ أي ردّت السفلة على الرؤساء و﴿عَلِمَتِ﴾ هنا معلقة، والجملة المنفية في موضع مفعولي علمت إن تعدت إلى اثنين أو في موضع مفعول واحد إن تعدت لواحد. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم وابن الجارود والبكراوي كلاهما عن هشام بتشديد كاف ﴿نُكِسُوا ﴾ وقرأ رضوان بن المعبود ﴿نُكِسُوا ﴾ بتخفيف
٣٢٥
الكاف مبنياً للفاعل أي نكسوا أنفسهم.
ولما ظهرت الحجة عليهم أخذ يقرعهم ويوبخهم بعباده تماثيل ما لا ينفع ولا يضر، ثم أبدى لهم التضجر منهم ومن معبوداتهم وتقدم الخلاف في قراءة ﴿أُفٍّ﴾ واللغات فيها واللام في ﴿لَكُمْ﴾ لبيان المتأفف به أي لكم ولآلهتكم، هذا التأفف ثم نبههم على ما به يدرك حقائق الأشياء وهو العقل فقال :﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ أي قبح ما أنتم عليه وهو استفهام توبيخ وإنكار.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣١٧


الصفحة التالية
Icon