ولما ذكر تعالى ما أنعم على إبراهيم ما أنعم به على من هاجر معه فارًّا بدينه وهو لوط ابن أخيه وانتصب ﴿وَلُوطًا﴾ على الاشتغال والحكم الذي أوتيه النبوة. وقيل : حسن الفصل بين الخصوم في القضاء. وقيل : حفظ صحف إبراهيم، ولما ذكر الحكم ذكر ما يكون به وهو العلم و﴿الْقَرْيَةِ﴾ سدوم وكانت قراهم سبعاً وعبر عنها بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة، وكانت من كورة فلسطين إلى حد السراة إلى حد نجد بالحجاز، قلب منها تعالى ستاً وأبقى منها زغر لأنها كانت محل لوط وأهله ومن آمن به أي
٣٢٩
﴿وَنَجَّيْنَـاهُ مِنَ﴾ أهل ﴿الْقَرْيَةِ﴾ أي خلصناه منهم أو من العذاب الذي حل بهم، ونسب عمل ﴿الْخَبَـا ئِثَ﴾ إلى القرية مجازاً وهو لأهلها وانتصبْ ﴿الْخَبَـا ئِثَ﴾ على معنى ﴿تَّعْمَلُ﴾ لأعمال أو الفعلات الخبيثة وهي ما ذكره تعالى في غير هذه السورة مضافاً إلى كفرهم بالله وتكذيبهم نبيه، وقوله ﴿أَنَّهُمْ﴾ يدل على أن التقدير من أهل القرية ﴿وَأَدْخَلْنَـاهُ فِى رَحْمَتِنَآ﴾ أي في أهل رحمتنا أو في الجنة، سماها رحمة إذ كانت أثر الرحمة.
ولما ذكر تعالى قصة إبراهيم وهو أبو العرب وتنجيته من أعدائه ذكر قصة أبي العالم الإنسي كلهم وهو الأب الثاني لآدم لأنه ليس أحد من نسله من سام وحام ويافث، وانتصب ﴿نُوحًا﴾ على إضمار اذكر أي واذكر ﴿نُوحًا﴾ أي قصته ﴿إِذْ نَادَى ﴾ ومعنى نادى دعا مجملاً بقوله ﴿أَنِّى مَغْلُوبٌ﴾ فانتصر مفصلاً بقوله ﴿رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا﴾ والكرب أقصى الغم والأخذ بالنفس، وهو هنا الغرق عبر عنه بأول أحوال ما يأخذ الغريق، وغرقت في بحر النيل ووصلت إلى قرار الأرض ولحقني من الغم والكرب ما أدركت أن نفسي صارت أصغر من البعوضة، وهو أول أحوال مجيء الموت.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣١٧
﴿وَنَصَرْنَـاهُ مِنَ الْقَوْمِ﴾ عداه بمن لتضمنه معنى ﴿نَجَّيْنَـاهُ﴾ بنصرنا ﴿مِنَ الْقَوْمِ﴾ أو عصمناه ومنعناه أي من مكروه القوم لقوله ﴿فَمَن يَنصُرُنَا مِنا بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا ﴾. وقال الزمخشري : هو نصر الذي مطاوعه انتصر، وسمعت هذلياً يدعو على سارق : اللهم انصرهم منه أي اجعلهم منتصرين منه، وهذا معنى في نصر غير المتبادر إلى الذهن. وقال أبو عبيدة ﴿مِنْ﴾ بمعنى على أي ﴿وَنَصَرْنَـاهُ﴾ على ﴿الْقَوْمَ﴾ ﴿فَأَغْرَقْنَـاهُمْ﴾ أي أهلكناهم بالغرق. و﴿أَجْمَعِينَ﴾ تأكيد للضمير المنصوب وقد كثر التوكيد بأجمعين غير تابع لكلهم في القرآن، فكان ذلك حجة على ابن مالك في زعمه أن التأكيد بأجمعين قليل، وأن الكثير استعماله تابعاً لكلهم.
﴿وَدَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ﴾ عطف على ﴿وَنُوحًا﴾. قال الزمخشري :﴿وَإِذَا﴾ بدل منهما انتهى. والأجود أن يكون التقدير واذكر ﴿دَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ﴾ أي قصتهما وحالهما ﴿إِذْ يَحْكُمَانِ﴾ وجعل ابن عطية ﴿وَدَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ﴾ معطوفين على قوله ﴿وَنُوحًا﴾ معطوفاً على قوله ﴿وَلُوطًا﴾ فيكون ذلك مشتركاً في العامل الذي هو ﴿ءَاتَيْنَآ﴾ المقدرة الناصبة للوط المفسرة بآتينا فالتقدير وآتينا نوحاً وداود وسليمان أي آتيناهم ﴿حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ ولا يبعد ذلك وتقدير اذكر قاله جماعة. وكان داود ملكاً نبياً يحكم بين الناس فوقعت هذه النازلة، وكان ابنه إذ ذاك قد كبر وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم وكانوا يدخلون إلى داود من باب آخر، فتخاصم إليه رجل له زرع وقيل كرم و﴿الْحَرْثِ﴾ يقال فيهما وهو في الزرع أكثر، وأبعد عن الاستعارة دخلت حرثه غنم رجل فأفسدت عليه، فرأى داود دفعها إلى صاحب الحرث فعلى أنه كرم رأى أن الغنم تقاوم وما أفسدت من الغلة وعلى أنه زرع رأى أنها تقاوم الحرث والغلة فخرجا على سليمان فشكى صاحب الغنم فجاء سليمان فقال : يا نبيّ الله إني أرى ما هو أرفق بالجميع، أن يأخذ صاحب الغنم الحرث يقوم عليه ويصلحه حتى يعود كما كان، ويأخذ صاحب الحرث الغنم في تلك المدة ينتفع بمرافقها من لبن وصوف ونسل، فإذا عاد الحرث إلى حاله صرف كل مال صاحبه إليه فرجعت الغنم إلى ربها والحرث إلى ربه فقال داود : وفقت يا بني وقضى بينهما بذلك. والظاهر أن كلاًّ من داود وسليمان حكم بما ظهر له وهو متوجه عنده فحكمهما باجتهاد وهو قول الجمهور، واستدل بهذه الآية على جواز الاجتهاد.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣١٧
وقيل : حكم كل واحد منهما بوحي من الله ونسخ حكم داود بحكم سليمان، وأن معنى ﴿فَفَهَّمْنَـاهَا سُلَيْمَـانَ﴾ أي فهمناه القضاء الفاصل الناسخ الذي أراد الله أن يستقر في النازلة. وقرأ عكرمة فأفهمناها عُدِّي بالهمزة كما عُدِّي في قراءة الجمهور بالتضعيف والضمير في ﴿فَفَهَّمْنَـاهَا﴾ للحكومة أو الفتوى، والضمير في ﴿لِحُكْمِهِمْ﴾ عائد على الحاكمين
٣٣٠


الصفحة التالية
Icon