والمحكوم لهما وعليهما، وليس المصدر هنا مضافاً لا إلى فاعل ولا مفعول، ولا هو عامل في التقدير فلا ينجل بحرف مصدري. والفعل به هو مثل له ذكاء ذكاء الحكماء وذهن ذهن الأذكياء وكان المعنى وكنا للحكم الذي صدر في هذه القضية ﴿شَـاهِدِينَ﴾ فالمصدر هنا لا يراد به العلاج بل يراد به وجود الحقيقة. وقرأ ابن عباس فالضمير لداود وسليمان. ومعنى ﴿لِحُكْمِهِمْ شَـاهِدِينَ﴾ لا يخفى علينا منه شيء ولا يغيب قال الزمخشري (وان قلت)ما وجه كل واحدة من الحكومتين (قلت) ام وجه حكومة داود فلأن الضرر لما وقع بالغنم سلمت بجنايتها إلى المجني عليه كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وعند الشافعي يبيعه في ذلك أو يفديه، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث، ووجه حكومة سليمان أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان.
فإن قلت : فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها ؟ قلت : أبو حنيفة وأصحابه لا يرون فيه ضماناً بالليل والنهار إلاّ أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد، والشافعي يوجب الضمان انتهى.
والظاهر أن كلاًّ من الحكمين صواب لقولهه ﴿وَكُلا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾. والظاهر أن ﴿يُسَبِّحْنَ﴾ جملة حالية من ﴿الْجِبَالُ﴾ أي مسبحات. وقيل : استئناف كأن قائلاً قال : كيف سخرهن ؟ فقال :﴿يُسَبِّحْنَ﴾ قيل : كان يمر بالجبال مسبحاً وهي تجاوبه. وقيل : كانت تسير معه حيث سار، والظاهر وقوع التسبيح منها بالنطق خلق الله فيها الكلام كما سبح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسمع الناس ذلك، وكان داود وحده يسمعه قاله يحيى بن سلام. وقيل : كل واحد. قال قتادة :﴿يُسَبِّحْنَ﴾ يصلين. وقيل : يسرن من السباحة. وقال الزمخشري : كما خلقه يعني الكلام في الشجرة حين كلم موسى انتهى. وهو قول المعتزلة ينفون صفة الكلام حقيقة عن الله تعالى. وقيل : إسناد التسبيح إليهن مجاز لما كانت تسير بتسيير الله حملت من رآها على التسبيح فأسند إليها، والأكثرون على تسبيحهن هو قول سبحان الله. وانتصب ﴿وَالطَّيْرُ﴾ عطفاً على ﴿الْجِبَالُ﴾ ولا يلزم من العطف دخوله في قيد التسبيح. وقيل : هو مفعول معه أي يسبحن مع الطير. وقرىء ﴿وَالطَّيْرُ﴾ مرفوعاً على الابتداء والخبر محذوف أي مسخر لدلالة سخرنا عليه، أو على الضمير المرفوع في ﴿يُسَبِّحْنَ﴾ على مذهب الكوفيين وهو توجيه قراءة شاذة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣١٧
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قدمت ﴿الْجِبَالُ﴾ على ﴿الطَّيْرُ﴾ ؟ قلت : لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة، وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق انتهى. وقوله : ناطق إن عنى به أنه ذو نفس ناطقة كما يقولون في حد الإنسان أنه حيوان ناطق فيلزم أن يكون الطير إنساناً، وإن عنى أنه متكلم كما يتكلم الإنسان فليس بصحيح وإنما عنى به مصوّت أي له صوت، ووصف الطير بالنطق مجاز لأنها في الحقيقة لا نطق لها.
وقوله ﴿وَكُنَّا فَـاعِلِينَ﴾ أي فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهنّ والطير لمن نخصه بكرامتنا ﴿وَعَلَّمْنَـاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ﴾ اللبوس الملبوس فعول بمعنى مفعول كالركوب بمعنى المركوب، وهو الدرع هنا. واللبوس ما يلبس. قال الشاعر :
عليها أسود ضاريات لبوسهمسوابغ بيض لا يخرّقها النبل
قال قتادة : كانت صفائح فأول من سردها وحلقها داوود فجمعت الخفة والتحصين. وقيل : اللبوس كل آلة السلاح من سيف ورمح ودرع وبيضة وما يجري مجرى ذلك، وداود أول من صنع الدروع التي تسمى الزرد. قيل : نزل ملكان من السماء فمرا بداود فقال أحدهما للآخر : نعم الرجل إلاّ أنه
٣٣١
يأكل من بيت المال، فسأل الله أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدروع امتن تعالى عليه بإيتائه حكماً وعلماً وتسخير الجبال والطير معه وتعليم صنعة اللبوس، وفي ذلك فضل هذه الصنعة إذ أسند تعليمها إياه إليه تعالى.