ثم امتن علينا بها بقوله ﴿لِتُحْصِنَكُم مِّنا بَأْسِكُمْ﴾ أي ليكون وقاية لكم في حربكم وسبب نجاة من عدوّكم. وقرىء ﴿لَبُوسٍ﴾ بضم اللام والجمهور بفتحها. وقرأ الجمهور : ليحصنكم بياء الغيبة أي الله فيكون التفاتاً إذ جاء بعد ضمير متكلم في ﴿وَعَلَّمْنَـاهُ﴾ ويدل عليه قراءة أبي بكر عن عاصم بالنون وهي قراءة أبي حنيفة ومسعود بن صالح ورويس والجعفي وهارون ويونس والمنقر كلهم عن أبي عمرو ليحصنكم داود، واللبوس قيل أو التعليم. وقرأ ابن عامر وحفص والحسن وسلام وأبو جعفر وشيبه وزيد بن علي بالتاء أي ﴿لِتُحْصِنَكُم﴾ الصنعة أو اللبوس على معنى الدرع ودرع الحديد مؤنثة وكل هذه القراءات الثلاث بإسكان الحاء والتخفيف. وقرأ الفقيمي عن أبي عمرو وابن أبي حماد عن أبي بكر بالياء من تحت وفتح الحاء وتشديد الصاد، وابن وثاب والأعمش بالتاء من فوق والتشديد واللام في ﴿لَكُمْ﴾ يجوز أن تكون للتعليل فتتعلق بعلمناه، أي لأجلكم وتكون ﴿لِتُحْصِنَكُم﴾ في موضع بدل أعيد معه لام الجر اذ الفعل منصوب بإضمار إن فتتقدّر بمصدر أي ﴿لَكُمْ﴾ لإحصانكم ﴿مِّنا بَأْسِكُمْ﴾ ويجوز أن تكون ﴿لَكُمْ﴾ صفة للبوس فتتعلق بمحذوف أي كائن لكم، واحتمل أن يكون ليحصنكم تعليلاً للتعليم فيتعلق بعلمناه، وأن يكون تعليلاً للكون المحذوف المتعلق به ﴿لَكُمْ﴾ ﴿فَهَلْ أَنتُمْ شَـاكِرُونَ﴾ استفهام يتضمن الأمر أي اشكروا الله على ما أنعم به عليكم كقوله ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ أي انتهوا عما حرم الله.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣١٧
ولما ذكر تعالى ما خص به نبيه داود عليه السلام ذكر ما خص به ابنه سليمان عليه السلام، فقال ﴿وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ﴾ وجاء التركيب هنا حين ذكر تسخير الريح لسليمان باللام، وحين ذكر تسخير الجبال جاء بلفظ مع فقال ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُادَ الْجِبَالَ﴾ وكذا جاء ﴿فَضْلا يَـاجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ﴾ وقال فسخرنا له الريح تجري بأمره، وذلك أنه لما اشتركا في التسبيح ناسب ذكر مع الدالة على الاصطحاب، ولما كانت الريح مستخدمة لسليمان أضيفت إليه بلام التمليك لأنها في طاعته وتحت أمره. وقرأ الجمهور ﴿الرِّيحَ﴾ مفرداً بالنصب. وقرأ ابن هرمز وأبو بكر في رواية بالرفع مفرداً. وقرأ الحسن وأبو رجاء الرياح بالجمع والنصب. وقرأ بالجمع والرفع أبو حيوة فالنصب على إضمار سخرنا، والرفع على الابتداء و﴿عَاصِفَةً﴾ حال العامل فيها سخرنا في قراءة من نصب ﴿الرِّيحَ﴾ وما يتعلق به الجار في قراءة من رفع ويقال : عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة، ولغة أسد أعصفت فهي معصف ومعصفة، ووصفت هذه الريح بالعصف وبالرخاء والعصف الشدة في السير والرخاء اللين. فقيل : كان ذلك بالنسبة إلى الوقت الذي يريد فيه سليمان أحد الوصفين فلم يتحد الزمان. وقيل : الجمع بين الوصفين كونها رخاء في نفسها طيبة كالنسيم عاصفة في عملها تبعد في مدة يسيرة كما قال تعالى ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾. وقيل : الرخاء في البداءة والعصف بعد ذلك في التقول على عادة البشر في الإسراع إلى الوطن، وهذا القول راجع إلى اختلاف الزمان وجريها بأمره طاعتها له على حسب ما يريد، ويأمر.
و﴿الارْضُ﴾ أرض الشام وكانت مسكنه ومقر ملكه. وقيل : أرض فلسطين. وقيل : بيت المقدس. قال الكلبي كان يركب عليها من اصطخر إلى الشام. قيل : ويحتمل أن تكون ﴿الارْضُ﴾ التي يسير إليها سليمان كائنة ما كانت ووصفت بالبركة لأنه هذا حل أرضاً أصلحها بقتل كفارها وإثبات الإيمان فيها وبث العدل، ولا بركة أعظم من هذا. والظاهر : أن ﴿الَّتِى بَـارَكْنَا﴾ صفة للأرض. وقال منذر بن سعيد : الكلام تام عند قوله ﴿إِلَى الارْضِ﴾ و﴿الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا﴾ صفة للربح ففي الآية تقديم وتأخير، يعني إن أصل التركيب ولسليمان الريح
٣٣٢
﴿الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا﴾ عاصفة تجري بأمره ﴿إِلَى الارْضِ﴾. وعن وهب : كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره، وكان لا يقعد عن الغزو فيأمر بخشب فيمد والناس عليه والدواب وآلة الحرب، ثم يأمر العاصف فيقله ثم يأمر الرخاء فتمر به شهراً في رواحة وشهراً في غدوه وعن مقاتل : نسجت له الشياطين بساطاً ذهباً في إبريسم فرسخاً في فرسخ، ووضعت له في وسطه منبراً من ذهب يقعد عليه وحوله كراسي من ذهب يقعد عليها الأنبياء، وكراسي من فضة يقعد عليها العلماء، وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين، والطير تظله من الشمس، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح، وقد أكثر الأخباريون في ملك سليمان ولا ينبغي أن يعتمد إلاّ على ما قصه الله في كتابه وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣١٧


الصفحة التالية
Icon