ولما كانت هذه الاختصاصات في غاية الغرابة من المعهود، أخبر تعالى أن علمه محيط بالأشياء يجريها على ما سبق به علمه، ولما ذكر تعالى تسخير الريح له وهي جسم شفاف لا يعقل وهي لا تدرك بالبصر ذكر تسخير الشياطين له، وهم أجسام لطيفة تعقل والجامع بينهما أيضاً سرعة الانتقال ألا ترى إلى قوله ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِا قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾ ﴿وَمِن﴾ في موضع نصب أي وسخرنا ﴿وَمِنَ الشَّيَـاطِينِ مَن يَغُوصُونَ﴾ أو في موضع رفع على الابتداء، والخبر في الجار والمجرور قبله. والظاهر أن ﴿مِنْ﴾ موصولة. وقال أبو البقاء : هي نكرة موصوفة، وجمع الضمير في ﴿يَغُوصُونَ﴾ حملاً على معنى ﴿مِنْ﴾ وحسن ذلك تقدم جمع قبله كما قال الشاعر :
وإن من النسوان من هي روضةيهيج الرياض قبلها وتصوح
لما تقدم لفظ النسوان حمل على معنى من فأنث، ولم يقل من هو روضة والمعنى ﴿يَغُوصُونَ﴾ له في البحار لاستخراج اللآلىء، ودل الغوص على المغاص فيه وعلى ما يغاص لاستخراجه وهو الجوهر، فلذلك لم يذكر أو قال له أي لسليمان لأن الغائص قد يغوص لنفسه ولغيره، فذكر أن الغوص ليس لأنفسهم إنما هو لأجل سليمان وامتثالهم أمره والإشارة بذلك إلى الغوص أي دون الغوص من بناء المدائن والقصور كما قال ﴿يَعْمَلُونَ لَه مَا يَشَآءُ مِن مَّحَـارِيبَ وَتَمَـاثِيلَ﴾ الآية. وقيل : الحمام والنورة والطاحون والقوارير والصابون من استخراجهم.
﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَـافِظِينَ﴾ أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدّلوا أو يغيروا أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه. وقيل :﴿حَـافِظِينَ﴾ أن يهيجوا أحداً في زمان سليمان. وقيل ﴿حَـافِظِينَ﴾ حتى لا يهربوا. قيل : سخر في أمر لا يحتاج إلى حفظ لأنه لا يفسد ما عمل، وتسخير أكثف الأجسام لداود وهو الحجر إذ أنطقه بالتسبيح والحديد إذ جعل في أصابعه قوة النار حتى لان له الحديد، وعمل منه الزرد، وتسخير ألطف الأجسام لسليمان وهو الريح والشياطين وهم من نار. وكانوا يغوصون في المائ والماء يطفىء النار فلا يضرهم، دليل واضح على باهر قدرته وإظهار الضد من الضد وإمكان إحياء العظم الرميم، وجعل التراب اليابس حيواناً فإذا أخبر به الصادق وجب قبوله واعتقاد وجوده انتهى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣١٧
﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُا أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَه فَكَشَفْنَا مَا بِهِا مِن ضُرٍّا وَءَاتَيْنَـاهُ أَهْلَه وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَـابِدِينَ * وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِا كُلٌّ مِّنَ الصَّـابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَـاهُمْ فِى رَحْمَتِنَآا إِنَّهُم مِّنَ الصَّـالِحِينَ * وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِى الظُّلُمَـاتِ أَن لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ﴾.
٣٣٣
طوّل الأخباريون في قصة أيوب، وكان أيوب رومياً من ولد إسحاق بن يعقوب، استنبأه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله، وكان له سبع بنين وسبع بنات، وله أصناف البهائم وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ونخيل، فابتلاه الله بذهاب ولده انهدم عليهم البيت فهلكوا وبذهاب ماله وبالمرض في بدنه ثمان عشرة سنة. وقيل دون ذلك فقالت له امرأته يوماً لو دعوت الله فقال لها : كم كانت مدة الرخاء ؟ فقالت : ثمانين سنة، فقال : أنا أستحي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي، فلما كشف الله عنه أحياء ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم. وروي أن امرأته ولدت بعد ستة وعشرين ابناً وذكروا كيفية في ذهاب ماله وأهله وتسليط إبليس عليه في ذلك الله أعلم بصحتها.
وقرأ الجمهور ﴿إِنِّى ﴾ بفتح الهمزة وعيسى بن عمر بكسرها إما على إضمار القول أي قائلاً ﴿إِنِّى ﴾ وإما على إجراء ﴿نَادَى ﴾ مجرى قال وكسر إني بعدها وهذا الثاني مذهب الكوفيين، والأول مذهب البصريين و﴿الضُّرُّ﴾ بالفتح الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال فرق بين البناءين لافتراق المعنيين، وقد ألطف أيوب في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب ولم يعين الضر الذي مسه.