﴿وَتَرَى الارْضَ هَامِدَةً﴾ هذا هو الدليل الثاني الذي تضمنته، والدليل الأول الآية، ولما كان الدليل الأول بعض مراتب الخلقة فيه غير مرتبين قال ﴿إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـاكُم﴾ فلم يحل في جميع رتبه على الرؤية، ولما كان هذا الدليل الثاني مشاهداً للأبصار أحال ذلك على الرؤية فقال ﴿وَتَرَى﴾ أيها السامع أو المجادل ﴿الارْضَ هَامِدَةً﴾ ولظهوره تكرر هذا الدليل في القرآن و﴿الْمَآءَ﴾ ماء المطر والأنهار والعيون والسواني واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات ﴿وَرَبَتْ﴾ أي زادت وانتفخت. وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وخالد بن إلياس وأبو عمرو في رواية وربأت بالهمز هنا وفي فصلت أي ارتفعت وأشرفت، يقال : فلان يربأ بنفسه عن كذا : أي يرتفع بها عنه. قال ابن عطية : ووجهها أن يكون من ربأت القوم إذا علوت شرفاً من الأرض طليعة فكان الأرض بالماء تتطاول وتعلو انتهى. ويقال ربىء وربيئة. وقال الشاعر :
بعثنا ربيئاً قبل ذلك مخملاكذئب الغضا يمشي الضراء ويتقى
ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وتطورهم في تلك المراتب، ومن إحياء الأرض حاصل بهذا وهو حقيقته تعالى فه الثابت الموجود القادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وقد وعد بالبعث وهو قادر عليه فلا بد من كيانه. وقوله ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ﴾ إلى آخره توكيد لقوله ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ﴾ والظاهر أن قوله ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ﴾ ليس داخلاً في سبب ما تقدم ذكره، فليس معطوفاً على أنه الذي يليه، فيكون على تقدير. والأمر ﴿إِنَّ السَّاعَةَ﴾ وذلك مبتدأ وبأن الخبر. وقيل ذلك منصوب بمضمر أي فعلنا ذلك.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٤٥
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَـادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَـابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِىَ عِطْفِهِا لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَه فِى الدُّنْيَا خِزْىٌا وَنُذِيقُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍا فَإِنْ أَصَابَه خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِا وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِا خَسِرَ﴾.
الظاهر أن المجادل في هذه الآية غير المجادل في الآية قبلها، فعن محمد بن كعب أنها نزلت في الأخنس بن شريق. وعن ابن عباس في أبي جهل. وقيل : الأولى في المقلدين وهذه في المقلدين، والجمهور على أنها والتي قبلها في النضر كررت مبالغة في الذم، ولكون كل واحدة اشتملت على زيادة ليست في الأخرى. وقد قيل فيه : نه نزلت فيه بضع عشرة آية. وقال ابن عطية : وكرر هذه على وجه التوبيخ، فكأنه يقول : هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ مع ذلك ﴿مَن يُجَـادِلُ﴾ فكان الواو واو الحال، والآية المتقدمة الواو فيها واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها، والآية على معنى الإخبار وهي ههنا مكررة للتوبيخ انتهى. ولا يتخيل أن الواو في ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَـادِلُ﴾ واو حال، وعلى تقدير الجملة التي قدّرها قبله لو كان مصرحاً بها لم يتقدّر بإذ فلا تكون للحال، وإنما هي للعطف قسم المخذولين إلى مجادل ﴿فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ متبع لشيطان مريد، ومجادل ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَـابٍ مُّنِيرٍ﴾ إلى آخره وعابد ربه على حرف والمراد بالعلم العلم الضروري، وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة، وبالكتاب المنير الوحي أي ﴿يُجَـادِلُ﴾ بغير واحد من هذه الثلاثة.
وانتصب ﴿ثَانِىَ عِطْفِهِ﴾ على الحال من الضمير المستكن في ﴿يُجَـادِلُ﴾ قال ابن عباس : متكبراً، ومجاهد : لاوياً عنقه بقبح، والضحاك شامخاً بأنفه وابن جريج : معرضا عن الحق، وقرأ الحسن ثاني عطف بفتح العين أي : تعطفه وترحمه و(ليضل) متعلق بـ(تجادل) وقرأ مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية ﴿لِّيُضِلَّ﴾ بفتح الياء أي ﴿لِّيُضِلَّ﴾ في نفسه والجمهور بضمها أي ﴿لِّيُضِلَّ﴾
٣٥٤
غيره، وهو يترتب على إضلاله كثرة العذاب، إذ عليه وزر من عمل به. ولما كان مآل جداله إلى الإضلال كان كأنه علة له، وكذلك لما كان معرضاً عن الهدى مقبلاً على الجدال بالباطل كان كالخارج من الهدى إلى الضلال.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٤٥
والخزي في الدنيا ما لحقه يوم بدر من الأسر والقتل والهزيمة، وقد أسر النضر. وقيل : يوم بدر بالصفراء. و﴿الْحَرِيقِ﴾ قيل طبقة من طباق جهنم، وقد يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي العذاب الحريق أي المحرق كالسميع بمعنى المسمع.


الصفحة التالية
Icon