ولما ذكر تعالى حالة من يعبده على حرف وسفه رأيه وتوعده بخسرانه في الآخرة عقبة بذكر حال مخالفيهم من أهل الإيمان وما وعدهم به من الوعد الحس، ثم أخذ في توبيخ أولئك الأولين كأنه يقول هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق وظنوا أن الله لن ينصر محمداً صلى الله عليه وسلّم وأتباعه، ونحن إنما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا، فمن ظن غير ذلك فليمدد بسبب ويختلق وينظر هل يذهب بذلك غيظه، قال هذا المعنى قتادة، وهذا على جهة المثل السائر قولهم : دونك الجبل فاختنق، يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه، فعلى هذا تكون الهاء في ﴿يَنصُرَهُ﴾ للرسول صلى الله عليه وسلّم وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدّي، واختاره الفراء والزجاج فالمعنى إن لن ينصر الله محمداً في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه، وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه، والرسول وإن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ وظانّ ذلك قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين، يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر أو أعراب استبطؤوا ظهور الرسول صلى الله عليه وسلّم فتباطؤوا عن الإسلام. والظاهر أن الضمير في ﴿يَنصُرَهُ﴾ عائد على ﴿مِنْ﴾ لأنه المذكور، وحق الضمير أن يعود على المذكور وهو قول مجاهد. وحمل بعض قائلي هذا القول النصر هنا على الرزق كما قالوا : أرض منصورة أي ممطورة. وقال الشاعر :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٤٥
وإنك لا تعطي امراً فوق حقهولا تملك الشق الذي أنت ناصره
أي معطييه. وقال : وقف علينا سائل من بني بكر فقال : من ينصرني نصره الله، فالمعنى من كان يظن أن لن يرزقه الله فيعدل عن دين محمد لهذا الظن كما وصف في قوله ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق، فإن ذلك لا يبلغه إلاّ ما قدر له ولا يجعله مرزوقاً أكثر مما قسم له، ويحتمل على هذا القول أن يكون النصر على بابه أي من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخر فيغتاظ لانتفاء نصره فليمذدد، ويدل على قوله فيغتاظ قوله ﴿هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُه مَا يَغِيظُ﴾ ويكون معنى قوله ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ فليتحيل بأعظم الحيل في نصرة الله إياه ثم ليقطع الحبل ﴿فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ﴾ وتحيله في إيصال النصر إليه الشيء الذي يغيظه من انتفاء نصره بتسلط أعدائه عليه.
وقال الزمخشري : هذا كلام دخله اختصار والمعنى : أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة، فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه ويغيظه أنه لا يظفر بمطلوبه فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مدّ جبلاً إلى سماء بيته فاختنق، ﴿فَلْيَنظُرِ﴾ وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه، وسمي الاختناق قطعاً لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه، ومنه قيل للبهر القطع وسمى فعله كيداً لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده، إنما كاد به نفسه، والمراد
٣٥٧
ليس في يده إلاّ ما ليس بمذهب لما يغيظه.
وقيل ﴿فَلْيَمْدُدْ﴾ بحبل ﴿إِلَى السَّمَآءِ﴾ المظلة وليصعد عليه فليقطع الوحي أن ينزل عليه وهذا قول ابن زيد. وقيل : الضمير في ﴿يَنصُرَهُ﴾ عائد على الدين والإسلام. قال ابن عطية : وأبين وجوه هذه الآية أن يكون مثلاً ويكون النصر المعروف والقطع الاختناق والسماء الارتفاع في الهواء سقف أو شجرة أو نحوه فتأمله، وما في ﴿مَا يَغِيظُ﴾ بمعنى الذي، والعائد محذوف أو مصدرية. وكذلك أي ومثل ذلك الإنزال ﴿أَنزَلْنَآ﴾ القرآن كله ﴿بَيِّنَـاتٍا فَسْـالْ﴾ أي لا تفاوت في إنزال بعضه ولا إنزال كله والهاء في ﴿أَنزَلْنَـاهُ﴾ للقرآن أضمر للدّلالة عليه كقوله ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ والتقدير والأمر ﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ﴾ أي يخلق الهداية في قلبك يريد هدايته لا خالق للهداية إلاّ هو.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٤٥
﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّـابِـاِينَ وَالنَّصَـارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِا إِنَّ اللَّهَ عَلَى ﴾.
لما ذكر قيل أن الله يهدي من
٣٥٨


الصفحة التالية
Icon