ولما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة ذكر ما دار بينهم من الخصومة في دينه، فقال ﴿هَـاذَانِ﴾ قال قيس بن عباد وهلال بن يساف، نزلت في المتبارزين يوم بدر حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث برز والعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. وعن عليّ : أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يديّ الله تعالى، وأقسم أبو ذر على هذا ووقع في صحيح البخاري أن الآية فيهم. وقال ابن عباس : الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وقع بينهم تخاصم، قالت اليهود : نحن أقدم ديناً منكم فنزلت. وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن وعاصم والكلبي الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم، وخصم مصدر وأريد به هنا الفريق، فلذلك جاء ﴿اخْتَصَمُوا ﴾ مراعاة للمعنى إذ تحت كل خصم أفراد، وفي رواية عن الكسائي ﴿خَصْمَانِ﴾ بكسر الخاء ومعنى ﴿فِى رَبِّهِمْ﴾ في دين ربهم. وقرأ ابن أبي عبلة اختصما، راعى لفظ التثنية ثم ذكر تعالى ما أعدّ للكفار.
وقرأ الزعفراني في اختياره :﴿قُطِّعَتْ﴾ بتخفيف الطاء كأنه تعالى يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة، والظاهر أن هذا المقطع لهم يكون من النار. وقال سعيد بن جبير ﴿ثِيَابُ﴾ من نحاس مذاب وليس شيء إذا حمي أشد حرارة منه، فالتقدير من نحاس محمى بالنار. وقيل : الثياب من النار استعارة عن إحاطة النار بهم كما يحيط الثوب بلابسه. وقال وهب : يكسى أهل النار والعري خير لهم، ويحيون والموت خير لهم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٤٥
ولما ذكر ما يصب على رؤوسهم إذ يظهر في المعروف أن الثوب إنما يغطى به الجسد دون الرأس فذكر ما يصيب الرأس من العذاب. وعن ابن عباس : لو سقطت من الحميم نقطة على جبال الدنيا لأذابتها ولما ذكر ما يعذب به الجسد ظاهره وما يصب على الرأس ذكر ما يصل إلى باطن المعذب وهو الحميم الذي يذيب ما في البطن من الحشا ويصل ذلك الذوب إلى الظاهر وهو الجلد فيؤثر في الظاهر تأثيره في الباطن كما قال تعالى ﴿فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ﴾ وقرأ الحسن وفرقة ﴿يُصْهَرُ﴾ بفتح الصاد وتشديد الهاء. وفي الحديث :"إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان". والظاهر عطف ﴿وَالْجُلُودُ﴾ على ﴿مَا﴾ من قوله ﴿يُصْهَرُ بِهِا مَا فِى بُطُونِهِمْ﴾ وأن تذاب كما تذاب الأحشاء. وقيل : التقدير وتخرق لأن الجلود لا تذاب إنما تجتمع على النار وتنكمش وهذا كقوله :
علفتها تبناً وماء بارداً
أي وسقيتها ماء. والظاهر أن الضمير في ﴿بِهَا وَلَهُمْ﴾ عائد على الكفار، واللام للاستحقاق. وقيل : بمعنى على أي وعليهم كقوله ﴿وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ أي وعليهم. وقيل : الضمير يعود على ما يفسره المعنى وهو الزبانية. وقال قوم منهم الضحاك : المقامع المطارق. وقيل : سياط من نار وفي الحديث :"لو وضع مقمع منها في الأرض مث اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض" ﴿مِنْهَا مِنْ غَمٍّ﴾ بد من منها بدل اشتمال، أعيد معه الجار وحذف الضمير لفهم المعنى أي من غمها، ويحتمل أن تكون من للسبب أي لأجل الغم الذي يلحقهم، والظاهر تعليق الإعادة على الإرادة للخروج فلا بد من محذوف يصح به المعنى، أي من أماكنهم المعدة لتعذيبهم ﴿أُعِيدُوا فِيهَا﴾ أي في تلك الأماكن. وقيل ﴿أُعِيدُوا فِيهَا﴾ بضرب الزبانية إياهم بالمقامع ﴿وَذُوقُوا ﴾ أي ويقال لهم ذوقوا. ولما ذكر تعالى ما أعد لأحد الخصمين من العذاب ذكر ما أعد من الثواب للخصم الآخر. وقرأ الجمهور ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الللام. وقىء بضم الياء والتخفيف. وهو بمعنى المشدد. وقرأ ابن عباس
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٤٥
﴿يُحَلَّوْنَ﴾ بفتح الياء واللام وسكون الحاء من قولهم : حلى الرجل وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي والمرأة ذات
٣٦٠
حلي والمرأة حال. وقال أبو الفضل الرازي : يجوز أن يكون من حَلي يعيني يحلى إذا استحسنته، قال فتكون ﴿مِنْ﴾ زائدة فيكون المعنى يستحسنون فيها الأساورة الملبوسة انتهى. وهذا ليس بجيد لأنه جعل حلى فعلاً متعدياً ولذلك حكم بزيادة ﴿مِنْ﴾ في الواجب وليس مذهب البصريين، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز لأنه لا يحفظ لازماً فإن كان بهذا المعنى كانت ﴿مِنْ﴾ للسبب أي بلباس أساور الذهب يحلون بعين من يراهم أي يحلى بعضهم بعين بعض. قال أبو الفضل الرازي : ويجوز أن تكون ﴿مِنْ﴾ حليت به إذا ظفرت به، فيكون المعنى ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾ بأساور فتكون ﴿مِنْ﴾ بدلاً من الباء، والحلية من ذلك فإما إذا أخذته من حليت به فإنه الحلية، وهو من الياء وإن أخذته من حلي بعيني فإنه من الحلاوة من الواو انتهى. ومن معنى الظفر قولهم : لم يحل فلان بطائل، أي لم يظفر. والظاهر أن ﴿مِنْ﴾ في ﴿مِنْ أَسَاوِرَ﴾ للتبعيض وفي ﴿مِّن ذَهَبٍ﴾ لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب.


الصفحة التالية
Icon