وقوله ولكن تعمّدت به إياه بعينه تعمداً فصل الضمير وليس من مواضع فصله، والصواب ولكن تعمدته به كما تقول السيف ضربتك به ولا تقول : ضربت به إياك، وفصله في مكان اتصاله عجمة، وقال أبو عبد الله الرازي : وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر، والتدبير كقوله تعالى ﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ﴾ وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر.
والضمير في ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ﴾ لقريش، وكان صلى الله عليه وسلّم يحذرهم نقمات الله ويوعدهم بذلك دنيا وآخرة وهم لا يصدقون بذلك ويستبعدون وقوعه، فكان استعجالهم على سبيل الاستهزاء وأن ما توعدتنا به لا يقع وإنه لا بعث وفي قوله ﴿وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُا﴾ أي إن ذلك واقع لا محالة، لكن لوقوعه أجل لا يتعداه. وأضاف الوعد إليه تعالى لأن رسوله عليه الصلاة والسلام هو المخبر به عن الله تعالى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٧٠
وقال الزمخشري : أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل والآجل، كأنه قال : ولم يستعجلون به كأنهم يجوّزون الفوت وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف والله عز وعلا لا يخلف الميعاد، وما وعده ليصيبهم ولو بعد حين وهو سبحانه حليم لا يعجل انتهى. وفي قوله وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف دسيسة الاعتزال.
وقيل :﴿وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُا﴾ في النظرة والإمهال
٣٧٨
واختلفوا في هذا التشبه. فقيل : في العدد أي اليوم عند الله ألف سنة من عددكم. وفي الحديث الصحيح :"يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وذلك خمسمائة عام فالمعنى وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله. وقيل : التشبيه وقع في الطول للعذاب فيه، والشدة أي ﴿وَإِنَّ يَوْمًا﴾ من أيام عذاب الله لشدة العذاب فيه وطوله ﴿كَأَلْفِ سَنَةٍ﴾ من عددكم إذ أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة، وكان ذلك اليوم الواحد كألف سنة من سني العذاب والمعنى أنهم لو عرفوا حال الآخرة ما استعجلوه وهذا القول قريب من قول أبي مسلم. وقيل : التشبيه بالنسبة إلى علمه تعالى وقدرته وإنفاذ ما يريد ﴿كَأَلْفِ سَنَةٍ﴾ واقتصر على ألف سنة وإن كان اليوم عنده كما لا نهاية له من العدد لكون الألف منتهى العدد دون تكرار، وهذا القول لا يناسب مورد الآية إلاّ إن أريد أنه القادر الذي لا يعجزه شيء، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضاً إمهال ألف سنة. وقال ابن عباس : أراد باليوم من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض. وقال ابن عيسى يجمع لهم عذاب ألف سنة في يوم واحد، ولأهل الجنة سرور ألف سنة في يوم واحد. وقال الفراء : تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة، وأريد العذاب في الدنيا أي ﴿وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُا﴾ في إنزال العذاب بكم في الدنيا، ﴿وَإِنَّ يَوْمًا﴾ من أيام عذابكم في الآخرة ﴿كَأَلْفِ سَنَةٍ﴾ من سني الدنيا فكيف تستعجلون العذاب. وقال الزجاج : تفضل تعالى عليهم بالإمهال والمعنى أن اليوم عند الله والألف سواء في قدرته بين ما استعجلوا به وبين تأخره.
وقرأ الأخوان وابن كثير يعدون بياء الغيبة، وباقي السبعة بتاء الخطاب وعطفت ﴿فَكَأَيِّن﴾ الأولى بالفاء وهذه الثانية بالواو. وقال الزمخشري : الأولى وقعت بدلاً عن قوله ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ وما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله ﴿وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُا وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ﴾ وتكرر التكثير بكائن في القرى لإفادة معنى غير ما جاءت له الأولى لأنه ذكر فيها القرى التي أهلكها دون إملاء وتأخير، بل أعقب الإهلاك التذكير وهذه الآية لما كان تعالى قد أمهل قريشاً حتى استعجلت بالعذاب جاءت بالإهلاك بعد الإملاء تنبيهاً على أن قريشاً وإن أملى تعالى لهم وأمهلهم فإنه لا بد من عذابهم فلا يفرحوا بتأخير العذاب عنهم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٧٠
ثم أمر نبيه أن يقول لأهل مكة ﴿قُلْ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ﴾ من عذاب الله موضح لكم ما تحذرون أو موضح النذارة لا تلجلج فيها، وذكر النذارة دون البشارة وإن كان التقسيم بعد ذلك يقتضيهما لأن الحديث مسوق للمشركين، و﴿يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ﴾ نداء لهم وهم المقول فيهم ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا ﴾ والمخير عنهم باستعجال العذاب وإنما ذكر المؤمنون هنا وما أعد الله لهم من الثواب ليغاظ المشركون بذلك وليحرضهم على نيل هذه الرتبة الجليلة التي فيها فوزهم، وحصر النذارة لأن المعنى ليس لي تعجيل عذابكم ولا تأخيره عنكم وإنما أنا منذركم به.


الصفحة التالية
Icon