﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ﴾ الآية قيل : نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كفار في الأشهر الحرم فأبى المؤمنون من قتالهم وأبى المشركون إلاّ القتال، فلما اقتتلوا جدّ المؤمنون ونصرهم الله. ومناسبتها لما قبلها واضحة وهو أنه تعالى لما ذكر ثواب من هاجر وقتل أو مات في سبيل الله أخبر أنه لا يدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم. وقال ابن جريج : الآية في المشركين بغوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأخرجوه والتقدير الأمر ذلك. قال الزمخشري : تسمية الابتداء بالجزاء لملابسته له من حيث أنه سبب وذلك مسبب عنه كما يجملون النظير على النظير والنقيض على النقيض للملابسة فإن قلت : كيف طابق ذكر العفو الغفور هذا الموضع ؟ قلت : المعاقب مبعوث من جهة الله عز وجل على الإخلال بالعقاب، والعفو عن الجاني على طريق التنزيه لا التحريم ومندوب إليه ومستوجب عند الله المدح إن آثر ما ندب إليه وسلك سبيل التنزيه، فحين لم يؤثر ذلك وانتصر وعاقب ولم ينظر في قول ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُه عَلَى اللَّهِ﴾ ﴿وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَالِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ﴾ فإن ﴿اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ أي لا يلومه على ترك ما بعثه عليه وهو ضامن لنصره في كرته الثانية من إخلاله بالعفو وانتقامه من الباغي عليه، ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي فيعرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو، ويلوح به ذكر هاتين الصفتين أو دل بذكر العفو والمغفرة على نه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلاّ القادر على حده ذلك، أي ذلك النصر بسبب أنه قادر.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٧٠
ومن آيات قدرته البالغة أنه ﴿يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ﴾ و﴿النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ﴾ أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار. وأنه ﴿سَمِيعُ﴾ لما يقولون ﴿بَصِيرٌ﴾ بما يفعلون وتقدم في أوائل آل عمران شرح هذا الإيلاج.
﴿ذَالِكَ﴾ أي ذلك الوصف بخلق الليل والنهار والإحاطة بما يجري فيهما وإدراك كل قول وفعل بسبب ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ﴿الْحَقِّ﴾ الثابت الإلهية وأن كل ما يدعى إلهاً دونه باطل الدعوة، وأنه لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً. وقرأ الجمهور ﴿وَإِن مَّا﴾ بفتح الهمزة. وقرأ الحسن بكسرها. وقرأ الإخوان وأبو عمرو وحفص ﴿يَدَّعُونَ﴾ بياء الغيبة هنا في لقمان. وقرأ باقي السبعة بتاء الخطاب وكلاهما الفعل فيه مبني للفاعل. وقرأ مجاهد واليماني وموسى الأسواري يدعو بالياء مبنياً للمفعول والواو عائدة على ما على معناها و﴿مَا﴾ الظاهر أنها أصنامهم. وقيل : الشياطين والأولى العموم في كل مدعو دون الله تعالى.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الارْضُ مُخْضَرَّةًا إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَّه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِا وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الارْضِ إِلا﴾.
٣٨٤
لما ذكر تعالى ما دل على قدرته الباهرة من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وهما أمران مشاهدان مجيء الظلمة والنور، ذكر أيضاً ما هو مشاهد من العالم العلوي والعالم السفلي، وهو نزول المطر وإنبات الأرض وإنزال المطر واخضرار الأرض مرئيان، ونسبة الإنزال إلى الله تعالى مدرك بالعقل. وقال أبو عبد الله الرازي : الماء وإن كان مرئياً إلاّ أن كون الله منزله من السماء غير مرئي إذا ثبت هذا وجب حمله على العلم، لأن المقصود من تلك الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٧٠
وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل فأصبحت ولم صرف إلى لفظ المضارع ؟ قلت : لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثرر المطر زماناً بعد مان. كما تقول أنعم عليّ فلان عام كذا، فأروح وأغذو شاكراً له. ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع.
فإن قلت : فما باله رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام ؟ قلت : لو نصب
٣٨٥
لأعطى ما هو عكس الغرض، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه، وإن رفعته فأنتم ثبت للشكر هذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله.


الصفحة التالية
Icon