لما ذكر تعالى أن الكفار يعبدون ما لا دليل على عبادته لا من سمع ولا من عقل ويتركون عبادة من خلقهم، ذكر ما عليه معبوداتهم من انتفاء القدرة على خلق أقل الأشياء بل على ردّ ما أخذه ذلك الأقل منه، وفي ذلك تجهيل عظيم لهم حيث عبدوا من هذه صفته لقوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ بتاء الخطاب. وقيل : خطاب للمؤمنين أراد الله أن يبين لهم خطأ الكافرين فيكون ﴿تَدْعُونَ﴾ خطاباً لغيرهم الكفار عابدي غير الله. وقيل : الخطاب عام يشمل من نظر في أمر عبادة غير الله، فإنه يظهر له قبح ذلك. و﴿ضُرِبَ﴾ مبني للمفعول، والظاهر أن ضارب المثل هو الله تعالى، ضرب مثلاً لما يعبد من دونه أي بين شبهاً لكم ولمعبودكم. وقيل : ضارب المثل هم الكفار، جعلوا مثلاً لله تعالى أصنامهم وأوثانهم أي فاسمعوا أنتم أيها الناس لحال هذا المثل ونحوه ما قال الأخفش قال : ليس ههنا ﴿مَثَلُ﴾ وإنما المعنى جعل الكفار لله مثلاً. وقيل : هو ﴿مَثَلُ﴾ من حيث المعنى لأنه ﴿ضُرِبَ مَثَلٌ﴾ من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذباباً.
وقال الزمخشري : فإن قلت : الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلاً ؟ قلت : قد سميت الصفة أو القصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة عندهم انتهى.
وقرأ الجمهور ﴿تَدْعُونَ﴾ بالتاء. وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمرو بالياء وكلاهما مبني للفاعل. وقرأ اليماني وموسى الأسواري بالياء من أسفل مبنياً للمفعول. وقال الزمخشري ﴿لَنْ﴾ أخت لا في نفي المستقبل إلاّ أن تنفيه نفياً مؤكداً، وتأكيده هنا الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم كأنه قال : محال أن يخلقوا انتهى. وهذا القول الذي قاله في ﴿لَنْ﴾ هو المنقول عنه أن ﴿لَنْ﴾ للنفي على التأييد، ألا تراه فسر ذلك بالاستحالة وغيره من النحاة يجعل ﴿لَنْ﴾ مثل لا في النفي ألا ترى إلى قوله ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ﴾ كيف جاء النفي بلا وهو الصحيح، والاستدلال عليه مذكور في النحو. وبدأ تعالى بنفي اختراعهم وخلقهم أقل المخلوقات من حيث أن الاختراع صفة له تعالى ثابتة مختصة لا يشركه فيها أحد، وثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز وهو أمر سلب ﴿الذُّبَابُ﴾ وعدم استنقاذ شيء مما ﴿يَسْلُبْهُمُ﴾ وكان الذباب كثيراً عند العرب، وكانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك. وعن ابن عباس : كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وموضع ﴿وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُا﴾ قال الزمخشري : نصب على الحال كأنه قال مستحيل : أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً لخلقه، وتعاونهم عليه انتهى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٧٠
وتقدم لنا الكلام على نظير ﴿وَلَوْ﴾ هذه، وتقرر أن الواو فيه للعطف على حال محذوفة، كأنه قيل ﴿لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾ على كل حال ولو في هذه الحال التي كانت تقتضي أن يخلقوا لأجل اجتماعهم، ولكنه ليس في مقدورهم ذلك.
﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ قال ابن عباس : الصنم والذباب، أي ينبغي أن يكون الضم طالباً لما سلب من طيبهم على معهود الأنفة في الحيوان. وقيل الآلهة و﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ﴾ الذباب فضعف الآلهة أن لا منعة لهم، وضعف الذباب في استلابه ما على الآلهة. وقال الضحاك : العابد والمعبود فضعف العابد في طلبهم الخير من غير جهته، وضعف المعبود في إيصال ذلك لعابده. وقال الزمخشري : وقوله ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾. وقيل : معناه التعجب أي ما أضعف الطالب والمطلوب.
﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِا﴾ أي ما عرفوه حق معرفته منافيتين لصفات آلهتهم من القوة والغلبة حيث عبدوا من هو منسلخ عن صفاته وسموه باسمه، ولم يؤهلوا خالقهم للعبادة ثم ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم من القوة والغلبة ﴿اللَّهُ يَصْطَفِى﴾ الآية نزلت بسبب قول
٣٩٠
الوليد بن المغيرة ﴿عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنا بَيْنِنَا بَلْ﴾ الآية، وأنكروا أن يكون الرسول من البشر فرد الله عليهم بأن رسله ملائكة وبشر، ثم ذكر أنه عالم بأحوال المكلفين لا يخفى عليه منهم شيء وإليه مرجع الأمور كلها.


الصفحة التالية
Icon