﴿يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ أي يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله :﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِى الارْضِ﴾ ﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لانزَلَ مَلَئاِكَةً﴾ هذا يدل على أنهم كانوا مقرين بالملائكة وهذه شنشنة قريش ودأبها في استبعاد إرسال الله البشر، والإشارة في هذا تحتمل أن تكون لنوح عليه السلام، وأن تكون إلى ما كلمهم به من الأمر بعبادة الله ورفض أصنامهم، وأن يكون إلى ما أتى به من أنه رسول الله وهو بشر، وأعجب بضلال هؤلاء استبعدوا رسالة البشر واعتقدوا إلهية الحجر. وقولهم ﴿مَّا سَمِعْنَا بِهَـاذَا﴾ الظاهر أنهم كانوا مباهتين وإلاّ فنبوّة إدريس وآدم لم تكن المدة بينها وبينهم متطاولة بحيث تنسى فدافعوا الحق بما أمكنهم دفاعه، ولهذا قالوا ﴿إِنْ هُوَ إِلا رَجُلُا بِهِا جِنَّةٌ﴾ ومعلوم عندهم أنه ليس بمجنون ﴿فَتَرَبَّصُوا بِهِ﴾ أي انتظروا حاله حتى يجلي أمره وعاقبة خبره.
فدعا ربه تعالى بأن ينصره ويظفره بهم بسبب ما كذبوه. وقال الزمخشري : يدل ما كذبون كما تقول : هذا بذاك أي بدل ذاك ومكانه، والمعنى أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم ﴿إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ انتهى.
وقرأ أبو جعفر وابن محيصن ﴿قَالَ رَبِّ﴾ بضم الباء، وتقدم توجيهه في قوله ﴿قَـالَ رَبِّ احْكُم﴾ بضم الباء وتقدم الكلام على أكثر تفسير ألفاظ هذه الآية في سورة هود، ونهاه تعالى أن يخاطبه في قومه بدعاء نجاة أو غيره وبين علة النهي بأنه تعالى قد حكم عليهم بالإغراق، وأمره تعالى بأن يحمده على نجاته وهلاكهم وكان الأمر له وحده وإن كان الشرط قد شمله ومن معه لأنه نبيهم وإمامهم وهم متبعوه في ذلك إذ هو قدوتهم. قال مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلاّ ملك أو نبي انتهى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٢
ثم أمره أن يدعوه بأنه ينزله ﴿مُنزَلا مُّبَارَكًا﴾ قيل وقال ذلك عند الركوب في السفينة. وقيل : عند الخروج منها. وقرأ الجمهور ﴿مُنزَلا﴾ بضم الميم وفتح الزاي فجاز أن يكون مصدراً ومكاناً أي إنزالاً أو موضع إنزال. وقرأ أبو بكر والمفضل وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبان : بفتح الميم وكسر الزاي أي مكان نزول ﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ﴾ خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام أي إن في ما جرى على هذه أمّة نوح لدلائل وعبراً ﴿وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ أي لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم أو لمختبرين بهذه الآيات عبادنا ليعتبروا كقوله ﴿وَلَقَد تَّرَكْنَـاهَآ ءَايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾.
﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنا بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُا أَفَلا تَتَّقُونَ * وَقَالَ الْمَلا مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَآءِ الاخِرَةِ وَأَتْرَفْنَـاهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا مَا هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ﴾.
٤٠٢
ذكر هذه القصة عقيب قصة نوح، يظهر أن هؤلاء هم قوم هود والرسول هو هود عليه السلام وهو قول الأكثرين. وقال أبو سليمان الدمشقي والطبري : هم ثمود، والرسول صالح عليه السلام هلكوا بالصيحة. وفي آخر القصة ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ ولم يأت أن قوم هود هلكوا بالصيحة وقصة قوم هود جاءت في الأعراف، وفي هود، وفي الشعراء بأثر قصة قوم نوح. وقال تعالى ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِنا بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ والأصل في أرسل أن يتعدى بإلى كأخوانه وجه، وأنفذ وبعث وهنا عُدِّي بفي، جعلت الأمة موضعاً للإرسال كما قال رؤبة :
أرسلت فيها مصعباً ذا إقحام


الصفحة التالية
Icon