﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ أي يموت بعض ويولد بعض ينقرض قرن ويأتي قرن انتهى، ثم أكدوا ما حصروه من أن لا حياة إلاّ حياتهم وحرموا بانتفاء بعثهم من قبورهم للجزاء وهذا هو كفر الدهرية، ثم نسبوه إلى افتراء الكذب على الله في أنه نبأه وأرسله إلينا وأخبره أنا نبعث ﴿وَمَا نَحْنُ لَه بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي بمصدّقين، ولما أيس من إيمانهم ورأى إصرارهم على الكفر دعا عليهم وطلب عقوبتهم على تكذيبهم ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ﴾ أي عن زمن قليل، وما توكيد للقلة وقليل صفة لزمن محذوف وفي معناه قريب. قيل : أي بعد الموت تصيرون نادمين. وقيل ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ أي وقت نزول العذاب في الدنيا ظهور علاماته والندامة على ترك قبول ما جاءهم به رسولهم حيث لا ينفع
٤٠٥
الرجوع، واللام في ﴿لَّيُصْبِحُنَّ﴾ لام القسم و﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ متعلق بما بعد اللام إما بيصبحن وإما بنادمين، وجاز ذلك لأنه جار ومجرور ويتسامح في المجرورات والظروف ما لا يتسامح في غيرها، ألا ترى أنه لو كان مفعولاً به لم يجز تقديمه لو قلت : لأضربن زيداً لم يجز زيداً لأضربن، وهذا الذي قررناه من أن ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ يتعلق بما بعد لام القسم هو قول بعض أصحابنا وجمهورهم على أن لام القسم لا يتقدم شيء من معمولات ما بعدها عليها سواء كان ظرفاً أو مجروراً أو غيرهما، فعلى قول هو لا يكون ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ يتعلق بمحذوف يدل عليه ما قبله تقديره ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ تنصر لأن قبله قال ﴿رَبِّ انصُرْنِى﴾. وذهب الفراء وأبو عبيدة إلى جواز تقديم معمول ما بعد هذه اللام عليها مطلقاً. وفي اللوامح عن بعضهم لتصبحن بتاء على المخاطبة، فلو ذهب ذاهب إلى أن يصير القول من الرسول إلى الكفار بعدما أجيب دعاؤه لكان جائزاً والله أعلم انتهى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٢
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ قال الزمخشري : صيحة جبريل عليه السلام صاح عليهم فدمرهم ﴿بِالْحَقِّ﴾ بالوجوب لأنهم قد استوجبوا الهلاك أو بالعدل من الله من قولك : فلان يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضاياه شبههم بالغثاء في دمارهم وهو حميل السيل مما يلي واسودّ من الورق والعيدان انتهى. وعن ابن عباس ﴿الصَّيْحَةَ﴾ الرجفة. وقيل : هي نفس العذاب والموت. وقيل : العذاب المصطلم. قال الشاعر :
صاح الزمان بآل زيد صيحةخروا لشنتها على الأذقان
وقال المفضل :﴿بِالْحَقِّ﴾ بما لا مدفع له كقوله : وجاءت سكرة الموت بالحق. وانتصب بعداً بفعل متروك إظهاره أي بعدوا بعداً. أي هلكوا، يقال بعد بعداً وبعداً نحو رشد رشداً ورشداً. وقال الحوفي ﴿لِّلْقَوْمِ﴾ متعلق بعداً. وقال الزمخشري : و﴿لِّلْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ﴾ بيان لمن دعى عليه بالبعد نحو ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ و﴿لِمَا تُوعَدُونَ﴾ انتهى فلا تتعلق ببعداً بل بمحذوف.
﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنا بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ﴾ ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم أحاديث فبعدا القوم لا يؤمنون ثم أرسلنا موسى وأخاه هرون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوماً عالين فقالوا أنؤمن لبشر مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين، ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرةر ومعين يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما
٤٠٦
تعملون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون.
﴿قُرُونًا﴾ قال ابن عباس : هم بنو إسرائيل. وقيل : قصة لوط وشعيب وأيوب ويونس صلوات الله عليهم ﴿مَّا تَسْبِقُ﴾ إلى آخر الآية تقدم الكلام عليها في الحجر ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ﴾ أي لأمم آخرين أنشأناهم بعد أولئك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشيبه وابن محيصن والشافعي ﴿تَتْرَا ﴾ منوناً وباقي السبعة بغير تنوين، وانتصب على الحال أي متواترين واحداً بعد واحد، وأضاف الرسل إليه تعالى وأضاف رسولاً إلى ضمير الأمة المرسل إليها لأن الإضافة تكون بالملابسة، فالأول كانت الإضافة لتشريف الرسل، والثاني كانت الإضافة إلى الأمة حيث كذبته ولم ينجح فيهم إرساله إليهم فناسب الإضافة إليهم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٢


الصفحة التالية
Icon