﴿فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا﴾ أي بعض القرون أو بعض الأمم بعضاً في الإهلاك الناشىء عن التكذيب. و﴿أَحَادِيثَ﴾ جمع حديث وهو جمع شاذ، وجمع أحدوثة وهو جمع قياسي. والظاهر أن المراد الثاني أي صاروا يتحدث بهم وبحالهم في الإهلاك على سبيل التعجب والاعتبار وضرب المثل بهم. وقال الأخفش : لا يقال هذا إلاّ في الشر ولا يقال في الخير. قيل : ويجوز أن يكون جمع حديث، والمعنى أنه لم يبق منهم عين ولا أثر إلاّ الحديث عنهم. وقال الزمخشري : الأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم انتهى. وأفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع، وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من الجموع كقطيع وأقاطيع، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير وهو لم يلفظ له بواحد فأحرى ﴿أَحَادِيثَ﴾ وقد لفظ له وهو حديث، فالصحيح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرناه.
﴿بِـاَايَـاتِنَا﴾ قال ابن عباس هي التسع وهي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، والسنون، ونقص من الثمرات ﴿وَسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ﴾ قيل : هي العصا واليد، وهما اللتان اقترن بهما التحدي ويدخل في عموم اللفظ سائر آياتهما كالبحر والمرسلات الست، وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون بل هي خاصة ببني إسرائيل. وقال الحسن :﴿بِـاَايَـاتِنَا﴾ أي بديننا. ﴿وَسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ﴾ هو المعجز، ويجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات، وبسلطان مبين
٤٠٧
كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء فقد فارقتها في قوة دلالتها على قول موسى عليه السلام. قيل : ويجوز أن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها كانت أمّ آيات موسى وأولاها، وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر بالضرب بها، وكونها حارساً وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلواً ورشاء، جعلت كأنها ليست بعض الآيات لما استبدت به من الفضل فلذلك عطفت عليها كقوله ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ﴾ ويجوز أن يراد بسلطان مبين الآيات أنفسها أي هي آيات وحجة بينة ﴿فَاسْتَكْبَرُوا ﴾ عن الإيمان بموسى وأخيه نفة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٢
﴿قَوْمًا عَالِينَ﴾ أي رفيعي الحال في الدنيا أي متطاولين على الناس قاهرين بالظلم، أو متكبرين كقوله ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الارْضِ﴾ أي وكان من شأنهم التكبر. والبشر يطلق على المفرد والجمع كقوله ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا﴾ ولما أطلق على الواحد جازت تثنيته فلذلك جاء ﴿لِبَشَرَيْنِ﴾ ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولا يؤنث، وقد يطابق تثنية وجمعاً وأي بنو إسرائيل ﴿وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَـابِدُونَ﴾ أي خاضعون متذللون، أو لأنه كان يدّعي الإلهية فادّعى الناس العبادة، وإن طاعتهم له عبادة على الحقيقة. وقال أبو عبيد : العرب تسمي كل من دان للملك عابداً، ولما كان ذلك الإهلاك كالمعلول للتكذيب أعقبه بالفاء أي فكانوا ممن حكم عليهم بالفرق إذ لم يحصل الغرق عقيب التكذيب.
﴿مُوسَى الْكِتَـابَ﴾ أي قوم موسى و﴿الْكِتَـابِ﴾ التوراة، ولذلك عاد الضمير على ذلك المحذوف في قوله ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ ولا يصح عود هذا الضمير في ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ على فرعون وقومه لأن ﴿الْكِتَـابِ﴾ لم يؤته موسى إلا بعد هلاك فرعون لقوله :﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ مِنا بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاولَى ﴾. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ ترج بالنسبة إليهم ﴿لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ لشرائعها ومواعظها.
﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُا﴾ أي قصتهما وهي ﴿ءَايَةً﴾ عظمى بمجموعها وهي آيات مع التفصيل، ويحتمل أن يكون حذف من الأول آية لدلالة الثاني أي وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية. والربوة هنا. قال ابن عباس وابن المسيب : الغوطة بدمشق، وصفتها أنها ﴿ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ على الكمال. وقال أبو هريرة : رملة فلسطين. وقال قتادة وكعب : بيت المقدس، وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء، وأنه يزيد على أعلى الأرض ثمانية عشر ميلاً. وقال ابن زيد ووهب : الربوة بأرض مصر، وسبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرها المفسرون. وقرأ الجمهور ﴿رَبْوَةٍ﴾ بضم الراء وهي لغة قريش، والحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم وابن عامر بفتحها، وأبو إسحاق السبيعي بكسرها وابن أبي إسحاق رباوة بضم الراء بالألف، وزيد بن عليّ والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف. وقرىء بكسرها وبالألف ﴿ذَاتِ قَرَارٍ﴾ أي مستوية يمكن القرار فيها للحرث والغراسة، والمعنى أنها من البقاع الطيبة. وعن قتادة : ذات ثمار وماء، يعني أنها لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٢


الصفحة التالية
Icon