ونداء ﴿الرُّسُلَ﴾ وخطابهم بمعنى نداء كلواحد وخطابه في زمانه إذ لم يجتمعوا في زمان واحد فينادون ويخاطبون فيه، وإنما أتى بصورة الجمع ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يوحد به ويعمل عليه. وقيل : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وجاء بلفظ الجمع لقيامه مقام ﴿الرُّسُلَ﴾ وقيل : ليفهم بذلك أن هذه طريقة كل رسول كما تقول تخاطب تاجراً : يا تجار اتقوا الربا. وقال الطبري : الخطاب لعيسى، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه والمشهور من بقل البرية. وقال الزمخشري : ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي وقلنا لهما هذا الذي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا وكلا مما رزقنا كما واعملا صالحاً اقتداء بالرسل والطيبات الحلال لذيذاً كان أو غير لذيذ. وقيل : ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه ويشهد له ﴿رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ وقدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح دلالة على أنه لا يكون صالحاً إلاّ مسبوقاً بأكل الحلال.
﴿إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ تحذير في الظاهر والمراد اتباعهم ﴿وَإِنَّ هَـاذِهِا أُمَّتُكُمْ﴾ الآية تقدم تفسير مثلها في أواخر الأنبياء. وقرأ الكوفيون ﴿وَإِنَّ﴾ بكسر الهمزة والتشديد على الاستئناف، والحرميان : وأبو عمرو بالفتح والتشديد أي
٤٠٨
ولأن، وابن عامر بالفتح والتخفيف وهي المخففة من الثقيلة، ويدل على أن النداء للرسل نودي كل واحد منهم في زمانه قوله ﴿وَإِنَّ هَـاذِهِا أُمَّتُكُمْ﴾.
وقوله ﴿فَتَقَطَّعُوا ﴾ وجاء هنا ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ وهو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء ﴿فَاعْبُدُونِ﴾ لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين من قوم نوح، والأمم الذين من بعدهم وفي الأنبياء وإن تقدمت أيضاً قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى وجاء هنا ﴿فَتَقَطَّعُوا ﴾ بالفاء إيذاناً بأن التقطيع اعتقب الأمر بالتقوى، وذلك مبالغة في عدم قبولهم وفي نفارهم عن توحيد الله وعبادته. وجاء في الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء، واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة، وفرح كل حزب بما لديه دليل على نعمته في ضلاله، وأنه هو الذي ينبغي أن يعتقد وكأنه لا ريبة عنده في أنه الحق.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٢
ولما ذكر تعالى من ذكر من الأمم ومآل أمرهم من الإهلاك حين كذبوا الرسل كان ذلك مثالاً لقريش، فخاطب رسوله في شأنهم بقوله ﴿فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ﴾ وهذا وعيد لهم حيث تقطعوا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقائل هو شاعر، وقائل ساحر، وقائل به جنة كما تقطع من قبلهم من الأمم كما قال ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِا بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾. قال الكلبي ﴿فِى غَمْرَتِهِمْ﴾ في جهالتهم. وقال ابن بحر : في حيرتهم. وقال ابن سلام : في غفلتهم. وقيل : في ضلالتهم ﴿حَتَّى حِينٍ﴾ حتى ينزل بهم الموت. وقيل : حتى يأتي ما وعدوا به من العذاب. وقيل : هو يوم بدر. وقيل : هي منسوخة بآية السيف. وقرأ الجمهور ﴿فِى غَمْرَتِهِمْ﴾ وعليّ بن أبي طالب وأبو حيوة والسلمي في غمراتهم على الجمع لأن لكل واحد غمرة، وعلى قراءة الجمهور فغمرة تعم إذا أضيفت إلى عام. وقال الزمخشري : الغمرة الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلاً لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل، قال الشاعر :
كأني ضارب في غمرة لعب
سلي رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخره انتهى. ثم وقفهم تعالى على خطأ رأيهم في أن نعمة الله عليهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم، وبيّن تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج إلى المعاصي واستجرار إلى زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعاجلة بالإحسان.


الصفحة التالية
Icon