﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَـارِهُونَ﴾ يدل على أن فيهم من لا يكره الحق وذلك من يترك الإيمان أنفة واستكباراً من توبيخ قومه أن يقولوا : صبأ وترك دين آبائه ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ﴾ قرأ ابن وثاب ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ﴾ بضم الواو والظاهر أنه ﴿الْحَقِّ﴾ الذي ذكر قبل في قولهم ﴿بَلْ جَآءَهُم بِالْحَقِّ﴾ أي لو كان ما جاء به الرسول من الإسلام والتوحيد متبعاً أهواءهم لانقلب شراً وجاء الله بالقيامة وأهلك العالم ولم يؤخر قال معناه الزمخشري وبعضه بلفظه. وقال أيضاً : دل بهذا على عظم شأن الحق، فلو ﴿اتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ لانقلب باطلاً ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده قوام. وقيل : لو كان ما جاء به الرسول بحكم هوى هؤلاء من اتخاذ شريك لله وولد وكان ذل حقاً لم يكن لله الصفات العلية ولم تكن له القدرة كما هي، وكان في ذلك فساد السموات والأرض. وقيل : كانوا يرون الحق في اتخاذ الآلهة مع الله لكنه لم يصح ذلك لوقع الفساد في السموات والأرض على ما قرر في دليل التمانع في قوله تعالى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ وقيل : كانت آراؤهم متناقضة فلو اتبع الحق أهواءهم لوقع التناقض واختل نظام العالم. وقال قتادة ﴿الْحَقِّ﴾ هنا الله تعالى.
فقال الزمخشري : معناه ولو كان الله يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي لما كان إلهاً ولما قدر على أن يمسك السموات والأرض. وقال ابن عطية : ومن قال إن ﴿الْحَقِّ﴾ في الآية هو الله تعالى وكان قد حكاه عن ابن جريج وأبي صالح تشعب له لفظة ﴿أَتَّبِعُ﴾ وصعب عليه ترتيب الفساد المذكور في الآية لأن لفظة الاتباع إنما هي استعارة بمعنى أن يكون أهواؤهم يقررها الحق، فنحن نجد الله تعالى قد قرر كفر أمم وأهواءهم وليس في ذلك فساد سموات، وأما نفسه الذي هو الصواب فلو كان طبق أهوائهم لفسد كل شيء فتأمله انتهى.
وقرأ الجمهور : بنون العظمة وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمرو ويونس عن أبي عمرو بياء المتكلم، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضاً وأبو البر هثيم وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء بتاء الخطاب للرسول عليه السلام، وأبو عمرو في رواية ﴿ءَاتَيْنَـاهُمُ﴾ بالمد أي أعطيناهم، والجمهور ﴿بِذِكْرِهِمْ﴾ أي بوعظهم والبيان لهم قاله ابن عباس. وقرأ عيسى بذكراهم بألف التأنيث، وقتادة نذكرهم بالنون مضارع ذكر ونسبة الإتيان الحقيقي إلى الله لا تصح، وإنما هو مجاز أي بل آتاهم كتابنا أو رسولنا.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٢
وقال الزمخشري :﴿بِذِكْرِهِمْ﴾ أي بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أوصيتهم، وفخرهم أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين.
﴿أَمْ تَسْـاَلُهُمْ خَرْجًا﴾ هذا استفهام توبيخ
٤١٤
أيضاً المعنى بل أتسألهم مالاً فغلبوا لذلك واستثقلوك من أجله، قاله ابن عطية وخطب الزمخشري بأحسن كلام فقال ﴿أَمْ تَسْـاَلُهُمْ﴾ على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق والكثير من عطاء الخالق خير فقد ألزمهم الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره علنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلاّ إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر انتهى.
وتقدم الكلام في قوله ﴿خَرْجًا فَخَرَاجُ﴾ في قوله تعالى ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا﴾ في الكهف قراءة ومدلولاً. وقرأ الحسن وعيسى خراجاً فخرج فكلمت بهذه القراءة ربع قراءات، وفي الحرفين ﴿فَخَرَاجُ رَبِّكَ﴾ أي ثوابه لأنه الباقي وما يؤخذ من غيره فان. وقال الكلبي : فعطاؤه لأنه يعطي لا لحاجة وغيره يعطي لحاجة. وقيل : فرزقه ويؤيده ﴿خَيْرُ الراَّزِقِينَ﴾ قال الجبائي :﴿خَيْرُ الراَّزِقِينَ﴾ دل على أنه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده، ودل على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضاً انتهى. وهذا مدلول ﴿خَيْرٌ﴾ الذي هو أفعل التفضيل ومدلول ﴿الراَّزِقِينَ﴾ الذي هو جمع أضيف إليه أفعل التفضيل.


الصفحة التالية
Icon