ولما زيف طريقة الكفار أتبع ذلك ببيان صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ وهو دين الإسلام، ثم أخبر أن من أنكر المعاد ناكب عن هذا الصراط لأنه لا يسلكه إلاّ من كان راجياً للثواب خائفاً من العقاب وهؤلاء غير مصدقين بالجزاء فهم مائلون عنه، وأبعد من زعم أن الصراط الذي هم ناكبون عنه هو طريق الجنة في الآخرة، ومن زعم أن الصراط هو في الآخرة ناكبون عنه بأخذهم يمنة ويسرة إلى النار. قال ابن عباس :﴿لَنَـاكِبُونَ﴾ لعادلون. وقال الحسن : تاركون له. وقال قتادة : حائرون. وقال الكلبي : معرضون، وهذه أقوال متقاربة المعنى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٢
﴿وَلَوْ رَحِمْنَـاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ﴾ قيل : هو الجوع. وقيل : القتل والسبي. وقيل : عذاب الآخرة أي بلغوا من التمرد والعناد أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لشدة لجاجهم فيما هم عليه من البعد وهذا القول بعيد بل الظاهر أن هذا التعليق كان يكون في الدنيا ويدل على ذلك قوله ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَـاهُم بِالْعَذَابِ﴾ إلى آخر الآية استشهد على شدة شكيمتهم في الكفر ولجاجهم على تقدير رحمته لهم بأنه أخذهم بالسيوف أولاً، وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل فأبلسوا وخضعت رقابهم. والظاهر من هذا أن الضمير هو القحط والجوع الذي أصابهم بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهذا مروي عن ابن عباس وابن جريج.
وسبب نزول الآية دليل على ذلك روي أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة منع الميرة من أهل مكة، فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال له : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت الرحمة للعالمين ؟ فقال :"بلى" فقال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية. والمعنى لو كشف الله عنهم هذا الضر وهو الهزل والقحط الذي أصابهم ووجدوا الخصب لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله والمؤمنين وإفراطهم فيها. وقيل : المعنى لو امتحناهم بكل محنة من القتل والجوع فما ريء فيهم استكانة ولا انقياد حتى إذا عذبزا بنار جهنم أبلسوا، كقوله
٤١٥
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ ﴿لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ فعلى هذا القول يكون الفتح لباب العذاب الشديد في الآخرة، وعلى الأول كان في الدنيا.
ووزن استكان استفعل أي انتقل من كون إلى كون كما تقول : استحال انتقل من حال إلى حال، وقول من زعم أن استكان افتعل من السكون وأن الألف إشباع ضعيف لأن الإشباع بابه لشعر كقوله :
أعوذ بالله من العقرابالشائلات عقد الأذناب
ولأن الإشباع لا يكون في تصاريف الكلمة، ألا ترى أن من أشبع في قوله :
ومن ذم الزمان بمنتزاح
لا تقول انتزاح ينتزيح فهو منتزيح، وأنت تقول : استكان يستكين فهو مستكين ومستكان ومجيء مصدره استكانة يدل على أن الفعل وزنه استفعل كاستقام استقامة، وتخالف ﴿اسْتَكَانُوا ﴾ و﴿يَتَضَرَّعُونَ﴾ في الصيغة فلم يكونا ماضيين ولا مضارعين. قال الزمخشري : لأن المعنى محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة، وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد. والملبس : الآيس من الشر الذي ناله. وقرأ السلمي ﴿مُّبْلِسُونَ﴾ بفتح اللام.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٢
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤١٦
الهمز : النخس والدفع بيد وغيرها، ومنه مهماز الرائض وهمز الناس باللسان. البرزخ : الحاجز بين المسافتين. وقيل : الحجاب بين الشيئين يمنع أحدهما أن
٤١٦
يصلى إلى الآخر. النسب : القرابة من جهة الولادة. اللفح : إصابة النار الشيء بوهجها وإحراقها. وقال الزجاج : اللفح أشد من اللقيح تأثيراً. الكلوح : تشمر الشفتين عن الأسنان ومنه كلوح كلوح الكلب والأسد. وقيل : الكلوح بسور الوجه وهو تقطيبه، وكلح الرجل كلوحاً وكلاحاً ودهر كالح وبرد كالح شديد. العبث : اللعب الخالي عن فائدة.


الصفحة التالية
Icon