﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ قال الزمخشري : استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها نحو الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين، والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع انتهى. وما ذكره الزمخشري من أنه استثناء من البيوت كما ذكر هو مروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن، ولا يظهر أنه استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة والمملوكة، ولذلك قال ﴿بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ وهذا الآية الثانية هي في البيوت المباحة، وقد مثل العلماء لهذه البيوت أمثلة. فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد : هي في الفنادق التي في طرق المسافرين. قال مجاهد : لا يسكنها أحد بل هي موقوفة يأوي إليها كل ابن سبيل. و﴿فِيهَا مَتَـاعٌ﴾ لهم أي استمتاع بمنفعتها، ومثل عطاء بالخرب التي تدخل للتبرز. وقال ابن زيد والشعبي : هي حوانيت
٤٤٦
القيسارية والسوق. قال ابن الحنيفة أيضاً : هي دور مكة، وهذا لا يسوغ إلا على القول بأن دور مكة غير مملوكة، وأن الناس فيها شركاء وأن مكة فتحت عنوة. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ وعيد للذين يدخلون البيوت غير المسكونة من أهل الريب.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٤٤
و﴿مِنْ﴾ في ﴿مِنْ أَبْصَـارِهِمْ﴾ عند الأخفش زائدة أي ﴿يَغُضُّوا ﴾ ﴿أَبْصَـارَهُمْ﴾ عما يحرم، وعند غيره للتبعيض وذلك أن أول نظرة لا يملكها الإنسان وإنما يغض فيما بعد ذلك، ويؤيده قوله لعليّ كرم الله وجهه : لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك الثانية. وقال ابن عطية : يصح أن تكون ﴿مِنْ﴾ لبيان الجنس، ويصح أن تكون لابتداء الغاية انتهى. ولم يتقدم مبهم فتكون ﴿مِنْ﴾ لبيان الجنس على أن الصحيح أن من ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس. ﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ أي من الزنا ومن التكشف. ودخلت ﴿مِنْ﴾ في قوله ﴿مِنْ أَبْصَـارِهِمْ﴾ دون الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن الزوجة ينظر زوجها إلى محاسنها من الشعر والصدور والعضد والساق والقدم، وكذلك الجارية المستعرضة وينظر من الأجنبية إلى وجهها وكفيها وأما أمر الفرج فمضيق. وعن أبي العالية وابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلاّ هذا فهو من الاستتار، ولا يتعين ما قاله بل حفظ الفرج يشمل النوعين. ﴿ذَالِكَ﴾ أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر لهم ﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُا بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ من إحالة النظر وانكشاف العورات، فيجازي على ذلك. وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر لا يكاد يقدر على الاختزاز منه، وهو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه ويكثر السقوط من جهته. وقال بعض الأدباء :
وما الحب إلا نظرة إثر نظرةتزيد نمواً إن تزده لجاجاً
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٤٤
ثم ذكر تعالى حكم المؤمنات في تساويهنّ مع الرجال في الغض من الأبصار وفي الحفظ للفروج. ثم قال ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ واستثنى ما ظهر من الزينة، والزينة ما تتزين به المرأة من حليّ أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهراً منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب، وما خفى منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لمن استثنى. وذكر الزينة دون مواضعها مبالغة في الأمر بالتصون والتستر لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الحسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء وهي الساق والعضد والعنق والرأس والصدر والآذان، فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر لا يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل النظر إليها غير ملابسة لها، وسومح في الزينة الظاهرة لأن سترها فيه حرج فإن المرأة لا تجديدّاً من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها خاصة الفقيرات منهنّ وهذا معنى قوله ﴿إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ يعني إلاّ ما جرت العادة والجبلة على ظهوره، والأصل فيه الظهور وسومح في الزينة الخفيفة. أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفر عن مماسة القرائب، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك. وقال ابن مسعود ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ هو الثياب، ونص على ذلك أحمد قال : الزينة الظاهرة الثياب، وقال تعالى ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ وفسرت الزينة بالثياب. وقال ابن عباس : الكحل والخاتم. وقال الحسن في جماعة : الوجه والكفان. وقال ابن جريج : الوجه والكحل والخاتم والخضاب والسوار. وقال الحسن أيضاً : الخاتم والسور. وقال ابن عباس : الكحل والخاتم فقط.
٤٤٧


الصفحة التالية
Icon