جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٣
٤٥٩
لما ذكر تعالى حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم ووصفهم بما وصفهم من الأعمال النافعة في الآخرة أعقب ذلك بذكر مقابلهم الكفرة وأعمالهم، فمثل لهم ولأعمالهم مثلين أحدهما يقتضي بطلان أعمالهم في الآخرة وأنهم لا ينتفعون بها. والثاني يقتضي حالها في الدنيا من ارتباكها في الضلال والظلمة شبه أولاً أعمالهم في اضمحلالها وفقدان ثمرتها بسراب في مكان منخفض ظنه العطشان ماء فقصده وأتعب نفسه في الوصول إليه. ﴿حَتَّى إِذَا جَآءَهُ﴾ أي جاء موضعه الذي تخيله. فيه ﴿لَمْ يَجِدْهُ شَيْـاًا﴾ أي فقده لأنه مع الدنو لا يرى شيئاً. كذلك الكافر يظن أن عمله في الدنيا نافعه حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم ينفعه عمله بل صار وبالاً عليه.
وقرأ مسلمة بن محارب : بقيعات بتاء ممطوطة جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة، وعنه أيضاً بتاء شكل الهاء ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة، ووقف بالهاء على لغة طيء كما قالوا البناه والأخواه في الوقف على البنات والأخوات. قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يريد قيعة كالعامة أي كالقراءة العامة، لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف مثل مخر نبق لينباع. وقال الزمخشري : وقد جعل بعضهم بقيعات بتاء ممدودة كرجل عزهاة. وقال صاحب اللوامح : ويجوز أنه جعله مثل سعلة وسعلاة وليلة وليلاة، والقيعة مفرد مرادف للقاع أو جمع قاع كنار ونيرة، فتكون على هذا قراءة قيعات جمع صحة تناول جمع تكسير مثل رجالات قريش وجمالات صفر.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٩
وقرأ شيبة وأبو جعفر ونافع بخلاف عنهما ﴿الظَّمْـاَانُ﴾ بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم، والظاهر أن قوله ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْـاَانُ﴾ هو من صفات السراب ولا يعني إلاّ مطلق ﴿الظَّمْـاَانُ﴾ لا الكافر ﴿الظَّمْـاَانُ﴾ وقال الزمخشري : شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها أن تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه يوم القيامة، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد ربانية الله عنده، يأخذونه ويعتلونه ويسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال الله فيهم ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾ ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ ﴿وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا﴾. وقيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام انتهى. فجعل ﴿الظَّمْـاَانُ﴾ هو الكافر حتى تطرد الضمائر في ﴿جَآءَهُ﴾ و﴿لَمْ يَجِدْهُ﴾ ﴿وَوَجَدَ﴾ و﴿عِندَهُا﴾ و﴿فَوَفَّـاهُ﴾ لشخص واحد، وغيره غاير بين الضمائر فالضمير في ﴿جَآءَهُ﴾ و﴿لَمْ يَجِدْهُ﴾ للظمآن. وفي ﴿وَوَجَدَ﴾ للكافر الذي ضرب له مثلاً بالظمآن، أي ووجد هذا
٤٦٠
الكافر وعد الله بالجزاء على عمله بالمرصاد ﴿فَوَفَّـاهُ حِسَابَهُا﴾ عمله الذي جازاه عليه. وهذا معنى قول أبي وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأفرد الضمير في ﴿وَوَجَدَ﴾ بعد تقدم الجمع حملاً على كل واحد من الكفار.
وقال ابن عطية : يحتمل أن يعود الضمير في ﴿جَآءَهُ﴾ على السراب. ثم في الكلام متروك كثير يدل عليه الظاهر تقديره وكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعاً ﴿حَتَّى إِذَا جَآءَه لَمْ يَجِدْهُ شَيْـاًا﴾ ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله ﴿أَعْمَـالَهُمْ﴾ ويكون تمام المثل في قوله ﴿مَآءَ﴾ ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٩
﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ﴾ أي بالمجازاة، والضمير في ﴿عِندَهُا﴾ عائد على العمل انتهى. والذي يظهر لي أنه تعالى شبه أعمالهم في عدم انتفاعهم بها بسراب صفته كذا، وأن الضمائر فيما بعد ﴿الظَّمْـاَانُ﴾ له. والمعنى في ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ﴾ أي ﴿وَوَجَدَ﴾ مقدور ﴿اللَّهِ﴾ عليه من هلاك بالظمأ ﴿عِندَهُا﴾ أي عند موضع السراب ﴿فَوَفَّـاهُ﴾ ما كتب له من ذلك. وهو المحسوب له، والله معجل حسابه لا يؤخره عنه فيكون الكلام متناسقاً آخذاً بعضه بعنق بعض. وذلك باتصال الضمائر لشيء واحد، ويكون هذا التشبيه مطابقاً لأعمالهم من حيث أنهم اعتقدوها نافعة فلم تنفعهم وحصل لهم الهلاك بأثر ما حوسبوا. وأما في قول الزمخشري : فإنه وإن جعل الضمائر للظمآن لكنه جعل ﴿الظَّمْـاَانُ﴾ هو الكافر وهو تشبيه الشيء بنفسه كما قال. وشبه الماء بعد الجهد بالماء. وأما في قول غيره : ففيه تفكيك الكلام إذ غاير بين الضمائر وانقطع ترصيف الكلام بجعل بعضه مفلتاً من بعض.


الصفحة التالية
Icon