﴿أَوْ كَظُلُمَـاتٍ﴾ هذا التشبيه الثاني لأعمالهم فالأول فيما يؤول إليه أعمالهم في الآخرة، وهذا الثاني فيما هم عليه في حال الدنيا. وبدأ بالتشبيه الأول لأنه آكد في الإخبار لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم والعذاب السرمدي. ثم أتبعه بهذا التمثيل الذي نبههم على ما هي أعمالهم عليه لعلهم يرجعون إلى الإيمان ويفكرون في نور الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم، والظاهر أنه تشبيه لأعمالهم وضلالهم بالظلمات المتكاثفة.
وقال أبو علي الفارسي : التقدير أو كذي ظلمات، قال : ودل على هذا المضاف قوله ﴿إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ﴾ فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف، فالتشبيه وقع عند أبي عليّ للكافر لا للأعمال وهو خلاف الظاهر، ويتخيل في تقرير كلامه أن يكون التقدير أو هم كذي ظلمات فيكون التشبيه الأول لأعمالهم. والثاني لهم في حال ضلالهم. وقال أبو البقاء : في التقدير وجهان أحدهما : أو كأعمال ذي ظلمات، فيقدر ذي ظلمات ليعود الضمير من قوله ﴿إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ﴾ إليه، ويقدر أعمال ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمات. والثاني : لا حذف فيه، والمعنى أنه شبه أعمال الكفار بالظلمة في حيلولتها بين القلب وبين ما يهتدى إليه، فأما الضمير في قوله ﴿إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ﴾ فيعود إلى مذكور حذف اعتماداً على المعنى تقديره إذا أخرج من فيها يده.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٩
وقال الجرجاني : الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار. والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على أعمالهم لأن الكفر أيضاً من أعمالهم، وقد قال تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور. من الكفر إلى الإيمان، فيكون التمثيل قد وقع لأعمالهم بكفر الكافر و﴿أَعْمَـالَهُمْ﴾ منها كفرهم، فيكون قد شبه ﴿أَعْمَـالَهُمْ﴾ بالظلمات، والعطف بأو هنا لأنه قصد التنويع والتفصيل لا أن ﴿أَوْ﴾ للشك. وقال الكرماني :﴿أَوْ﴾ للتخيير على تقدير شبه أعمال الكفار بأيهما شئت.
وقرأ سفيان بن حسين ﴿أَوْ كَظُلُمَـاتٍ﴾ بفتح الواو جعلها واو عطف تقدّمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الاستفهام. والظاهر أن الضمير في ﴿يَغْشَـاهُ﴾ عائد على ﴿بَحْرٍ لُّجِّىٍّ﴾ أي يغشى ذلك البحر أي يغطي بعضه بعضاً، بمعنى أن تجيء موجة تتبعها أخرى فهو متلاطم لا يسكن، وأخوف
٤٦١
ما يكون إذا توالت أمواجه، وفوق هذا الموج ﴿سَحَابٌ﴾ وهو أعظم للخوف لإخفائه النجوم التي يهتدى بها، وللريح والمطر الناشئين مع السحاب. ومن قدر أو كذي ظلمات أعاد الضمير في ﴿يَغْشَـاهُ﴾ على ذي المحذوف، أي يغشى صاحب الظلمات.
وقرأ الجمهور ﴿سَحَابٌ﴾ بالتنوين ﴿ظُلُمَـاتِ﴾ بالرفع على تقدير خبر لمبتدأ محذوف، أي هذه أو تلك ﴿ظُلُمَـاتِ﴾ وأجاز الحوفي أن تكون مبتدأ و﴿بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ مبتدأ وخبره في موضع خبر ﴿ظُلُمَـاتِ﴾. والظاهر أنه لا يجوز لعدم المسوغ فيه للابتداء بالنكرة إلاّ إن قدرت صفة محذوفة أي ظلمات كثيرة أو عظيمة ﴿بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾. وقرأ البزي ﴿سَحَابٌا ظُلُمَـاتُ﴾ بالإضافة. وقرأ قنبل ﴿سَحَابٌ﴾ بالتنوين ﴿ظُلُمَـاتِ﴾ بالجر بدلاً من ﴿ظُلُمَـاتِ﴾ و﴿بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ مبتدأ وخبر في موضع الصفة لكظلمات.
قال الحوفي : ويجوز على رفع ﴿ظُلُمَـاتِ﴾ أن يكون ﴿بَعْضَهَا﴾ بدلاً منها، وهو لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله أعلم الأخبار بأنها ظلمات، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة وليس على الأخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلمات متراكمة. وتقدم الكلام في كاد إذا دخل عليها حرف نفي مشبعاً في البقرة في قوله ﴿وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ فأغنى عن إعادته، والمعنى هنا انتفاء مقاربة الرؤية، ويلزم من ذلك انتفاء الرؤية ضرورة وقول من اعتقد زيادة يكد أو أنه يراها بعد عسر ليس بصحيح، والزيادة قول ابن الأنباري وأنه لم يرها إلاّ بعد الجهد قول المبرد والفراء.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٩
وقال ابن عطية ما معناه : إذا كان الفعل بعد كان منفياً دل على ثبوته نحو كاد زيد لا يقوم، أو مثبتاً دل على نفيه كاد زيد يقوم، وإذا تقدم النفي على كاد احتمل أن يكون منفياً تقول : المفلوخ لا يكاد يسكن فهذا تضمن نفي السكون. وتقول : رجل منصرف لا يكاد يسكن فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جهد انتهى. والظاهر أن هذا التشبيه الثاني هو تشبيه أعمال الكفار بهده الظلمات المتكاثفة من غير مقابلة في المعنى بأجزائه لا جزاء المشبه.


الصفحة التالية
Icon