ولما ذكر انقياد من في السموات والأرض والطير إليه تعالى وذكر ملكه لهذا العالم وصيرورتهم إليه أكد ذلك بشيء عجيب من أفعاله مشعر بانتقال من حال إلى حال. وكان عقب قوله وإليه المصير فاعلم بانتقال إلى المعاد فعطف عليه ما يدل على تصرفه في نقل الأشياء من حال إلى حال ومعنى ﴿يُزْجِى﴾ يسوق قليلاً قليلاً ويستعمل في سوق الثقيل برفق كالسحاب والإبل، والسحاب اسم جنس واحده سحابة، والمعنى يسوق سحابة إلى سحابة. ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ أي بين أجزائه لأنه سحابة تتصل بسحابة فجعل ذلك ملتئماً بتأليف بعض إلى بعض. وقرأ ورش يولف بالواو، وباقي السبعة بالهمز وهو الأصل. فيجعله ﴿رُكَامًا﴾ أي متكاثفاً يجعل بعضه إلى بعض، وانعصاره بذلك ﴿مِنْ خِلَـالِهِ﴾ أي فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار. والخلال : قيل مفرد. وقيل : جمع خلل كجبال وجبل. وقرأ ابن مسعود وابن عباس والضحاك ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من خلله بالإفراد، والظاهر أن في السماء جبالاً من برد قاله مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين : خلقها الله كما خلق في الأرض جبالاً من حجر. وقيل : جبال مجاز عن الكثرة لا أن في السماء جبالاً كما تقول : فلان يملك جبالاً من ذهب، وعنده جبال من العلم يريد الكثرة. قيل : أو هو على حذف حرف التشبيه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٦٣
و ﴿السَّمَآءِ﴾ السحاب أي ﴿مِّنَ السَّمَآءِ﴾ التي هي جبال أي كجبال كقوله ﴿حَتَّى إِذَا جَعَلَه نَارًا﴾ أي كنار قاله الزجاج، فجعل السماء هو السحاب المرتفع سمي بذلك لسموه وارتفاعه. وعلى القول الأول المراد بالسماء الجسم الأزرق المخصوص وهو المتبادر للذهن، ومن استعماله الجبال في الكثرة مجازاً قول ابن مقبل :
إذا مت عن ذكر القوافي فلنترى لها شاعراً مني أطلب وأشعرا
وأكثر بيتاً شاعراً ضربت لهبطون جبال الشعر حتى تيسرا
واتفقوا على أن ﴿مِنْ﴾ الأولى لابتداء الغاية. وأما ﴿مِن جِبَالٍ﴾. فقال الحوفي : هي بدل من ﴿السَّمَآءِ﴾ ثم قال : وهي للتبعيض، وهذا خطأ لأن الأولى لابتداء الغاية في ما دخلت عليه، وإذ كانت الثانية بدلاً لزم أن يكون مثلها لابتداء الغاية، لو قلت : خرجت من بغداد من الكرخ لزم أن يكونا معاً لابتداء الغاية. وقال الزمخشري وابن عطية : هي للتبعيض فيكون على قولهما في موضع المفعول لينزل. قال الحوفي والزمخشري : والثانية للبيان انتهى. فيكون التقدير وينزل من السماء بعض جبال فيها التي هي البرد فالمنزل برد لأن بعض البرد برد فمفعول ﴿يُنَزِّلَ﴾ ﴿مِن جِبَالٍ﴾.
قال الزمخشري : أو الأولان للابتداء والأخيرة للتبعيض، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها انتهى. فيكون ﴿مِن جِبَالٍ﴾ بدلاً ﴿مِّنَ السَّمَآءِ﴾.
وقيل :﴿مِنْ﴾ الثانية والثالثة زائدتان وقاله الأخفش، وهما في موضع نصب عنده كأنه قال : وينزل من السماء جبالاً فيها أي في السماء برداً وبرداً بدل أي برد جبال. وقال الفراء : هما زائدتان أي جبالاً فيها برد لا حصى فيها ولا حجر، أي يجتمع البرد فيصير كالجبال على التهويل فبرد مبتدأ وفيها خبره. والضمير في ﴿فِيهَا﴾ عائد على ﴿الْجِبَالُ﴾ أو فاعل بالجار والمجرور لأنه قد اعتمد بكونه في موضع الصفة لجبال. وقيل :﴿مِنْ﴾ الأولى والثانية لابتداء الغاية، والثالثة زائدة أي ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ﴾ السماء برداً. وقال الزجاج : معناه ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ﴾ برد فيها كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد، أي خاتم حديد في يدي، وإنما جئت في هذا وفي الآية بمن لما فرقت، ولأنك إذا
٤٦٤
قلت : هذا خاتم حديد كان المعنى واحداً انتهى. فعلى هذا يكون ﴿مِنا بَرَدٍ﴾ في موضع الصفة لجبال، كما كان من في من حديد صفة لخاتم، فيكون في موضع جر ويكون مفعول ﴿يُنَزِّلَ﴾ هو ﴿مِن جِبَالٍ﴾ وإذا كانت الجبال ﴿مِنا بَرَدٍ﴾ لزم أن يكون المنزل برداً. والظاهر إعادة الضمير في ﴿بِهِ﴾ على البرد، ويحتمل أن يكون أريد به الودق والبرد وجرى في ذلك مجرى اسم الإشارة. وكأنه قال : فيصيب بذلك والمطر هو أعم وأغلب في الإصابة والصرف أبلغ في المنفعة والامتنان.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٦٣


الصفحة التالية
Icon