﴿خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ﴾ من نوع من الماء مختص بهذه الدابة، أو ﴿مِن مَّآءٍ﴾ مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة هوامّ وبهائم وناس كما قال ﴿يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاكُلِ﴾ وهنا قصد أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينها وبينه وسائط كما قيل : إن أصل النور والنار والتراب الماء. وسمي الزحف على البطن مشياً لمشاكلته ما بعده من ذكر الماشين أو استعارة، كما قالوا : قد مشى هذا الأمر وما يتمشى لفلان أمر، كما استعاروا المشفر للشفة والشفة للجحفلة. والماشي ﴿عَلَى بَطْنِهِ﴾ الحيات والحوت ونحو ذلك من الدود وغيره. و﴿عَلَى رِجْلَيْنِ﴾ الإنسان والطير والأربع لسائر حيوان الأرض من البهائم وغيرها، فإن وجد من له أكثر من أربع. فقيل : اعتماده إنما هو على أربع ولا يفتقر في مشيه إلى جميعها وقد ما هو أعرف في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة مشى من له رجل وقوائم، ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع. وفي مصحف أُبيّ ومنهم من يمشي على أكثر، فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان لكنه لم يثبت قرآناً ولعله ما أورده قرآن بل تنبيهاً على أن الله خلق من يمشي على أكثر من أربع كالعنكبوت والعقرب والرتيلاء وذي أربع وأربعين رجلاً وتسمى الاذن وهذا النوع لندوره لم يذكر.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٦٣
﴿يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ﴾ إشارة إلى أنه تعالى ما تعلقت به إرادة خلقه أنشأه واخترعه، وفي ذلك تنبيه على كثرة الحيوان وأنها كما اختلفت بكيفية المشيء اختلفت بأمور أخر.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٦٣
٤٦٦
نزلت إلى قوله ﴿إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ﴾ في المنافقين بسبب منافق اسمه بشر، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم، ودعا هو إلى كعب بن الأشرف فنزلت.
ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبع ذلك بذمّ قوم آمنوا بألسنتهم دون عقائدهم. ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾ عن الإيمان. ﴿بَعْدَ ذَالِكَ﴾ أي بعد قولهم ﴿مِنْ﴾ ﴿وَمَآ أُوالَئاِكَ﴾ إشارة إلى القائلين فينتفي عن جميعهم الإيمان، أو إلى الفريق المتولي فيكون ما سبق لهم من الإيمان ليس إيماناً إنما كان ادّعاء باللسان من غير مواطأة بالقلب. وأفرد الضمير في ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ وقد تقدم قوله ﴿إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ لأن حكم الرسول هو عن الله. قال الزمخشري : كقولك أعجبني زيد وكرمه يريد كرم زيد ومنه :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٦٦
ومنهل من الفلافي أوسطهغلسته قبل القطا وفرطه
أراد قبل فرط القطا انتهى. أي قبل تقدم القطا إليه. وقرأ أبو جعفر ﴿لِيَحْكُمَ﴾ في الموضعين مبنياً للمفعول و﴿إِذَا﴾ الثانية للفجاءة. جواب ﴿إِذَا﴾ الأولى الشرطية، وهذا أحد الدلائل على أن الجواب لا يعمل في إذا الشرطية خلافاً للأكثرين من النحاة، لأن إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وقد أحكم ذلك في علم النحو. والظاهر أن ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق بيأتوا. والضمير في ﴿إِلَيْهِ﴾ عائد على الرسول صلى الله عليه وسلّم. وأجاز الزمخشري أن يتعلق ﴿إِلَيْهِ﴾ بمذعنين قال : لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص. وقد رددنا عليه ذلك وفي ما رجح تهيئة العامل للعمل وقطعه عن العمل وهو مما يضعف، والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معه إلا الحق المرّ والعدل البحت يزورون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم الحق على خصم أسرع إليك كلهم ولم يرضوا إلا بحكومتك.
﴿أَفِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ﴾ ﴿أَمِ﴾ هنا منقطعة والتقدير : بل ارتابوا بل أيخافون وهو استفهام توقيف وتوبيخ، ليقروا بأحد هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم، وهذا التوقيف يستعمل في الأمور الظاهرة مما يوبخ به ويذم، أو مما يمدح به وهو بليغ جداً فمن المبالغة في الذم. قول الشاعر :
ألست من القوم الذين تعاهدواعلى اللؤم والفحشاء في سالف الدهر
ومن المبالغة في المدح. قول جرير :
ألستم خير من ركب المطاياوأندى العالمين بطون راح
وقسم تعالى جهات صدودهم عن حكومته فقال ﴿أَفِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ أي نفاق وعدم إخلاص ﴿أَمِ ارْتَابُوا ﴾ أي عرضت لهم الريبة والشك في نبوته بعد أن كانوا مخلصين ﴿أَمْ يَخَافُونَ﴾ أي يعرض لهم الخوف من الحيف في الحكومة، فيكون ذلك ظلماً لهم. ثم استدرك ببل أنهم ﴿هُمُ الظَّـالِمُونَ﴾.
٤٦٧


الصفحة التالية
Icon