عن ابن عباس لما نزل ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ﴾ تحرج المسلمون عن مواكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله هذه الآية قيل : وتحرجوا عن أكل طعام القرابات فنزلت مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة أن تلك إنما هي في التعدي والقمار وما يأكله المؤمن من مال من يكره أهله أو بصفقة فاسدة ونحوه. وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وابن المسيب كانوا إذا نهضوا ءلى الغزو وخلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم تحرجوا من أكل مال الغائب فنزلت مبيحة لهم ما تمس إليه حاجتهم من مال الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك. وقال مجاهد : كان الرجل إذا ذهب بأهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئاً ذهب بهم إلى بيوت قراباته فتحرج أهل الأعذار من ذلك فنزلت. وقيل : كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار فبعضهم تقذراً لمكان جولان يد الأعمى، ولانبساط الجلسة مع الأعرج، ولرائحة المريض وهي أخلاق جاهلية وكبر. فنزلت واستبعد هذا لأنه لو كان هذا السبب لكان التركيب ليس عليكم حرج أن تأكلوا معهم ولم يكن ﴿لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى حَرَجٌ﴾ وأجاب بعضهم : بأن ﴿عَلَى﴾ في معنى أي في مواكلة الأعمى وهذا بعيد جداً. وفي كتاب الزهراوي عن ابن عباس أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم فنزلت. وعلى هذه الأقوال كلها يكون نفي الحرج عن أهل العذر ومن بعدهم في المطاعم. وقال الحسن وعبد الرحمن بن زيد الحرج المنفي عن أهل العذر هو في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه، والحرج المنفي عمن بعدهم في الأكل مما ذكر وهو مقطوع مما قبله إذ متعلق الحرجين مختلف. وإن كان قد اجتمعا في انتفاء الحرج. وهذا القول
٤٧٣
هو الظاهر. ولم يذكر بيوت الأولاد اكتفاء بذكر بيوتكم لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه، وبيته بيته. وفي الحديث "إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه".
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٧١
ومعنى ﴿مِنا بُيُوتِكُمْ﴾. من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم، والولد أقرب من عدد من القرابات فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى. وقرأ طلحة إمهاتكم بكسر الهمزة. ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُم﴾. قال ابن عباس : هو وكيل الرجل أن يتناول من التمر ويشرب من اللبن. وقال قتادة : العبد لأن ماله لك. وقال مجاهد والضحاك : خزائن بيوتكم إذا ملكتم مفاتيحها. وقال ابن جرير : الزمنى ملكوا التصرف في البيوت التي سلمت إليهم مفاتيحها. وقيل : ولي اليتيم يتناول من ماله بقدر مّا قال تعالى ﴿فَلْيَسْتَعْفِفْا وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ومفاتحه بيده.
وقرأ الجمهور ﴿مَلَكْتُم﴾ بفتح الميم واللام خفيفة. وقرأ ابن جبير بضم الميم وكسر اللام مشددة، والجمهور ﴿مَّفَاتِحَهُا﴾ جمع مفتح وابن جبير مفاتيحه جمع مفتاح، وقتادة وهارون عن أبي عمرو مفتاحه مفرداً. ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ قرىء بكسر الصاد إتباعاً لحركة الدال حكاه حميد الخزاز، قرن الله الصديق بالقرابة المحضة. قيل لبعضهم : من أحب إليك أخوك أم صديقك ؟ فقال : لا أحب أخي إلاّ إذا كان صديقي. وقال معمر : قلت لقتادة ألا أشرب من هذا الحب ؟ قال : أنت لي صديق فما هذا الاستئذان. وقال ابن عباس : الصديق أوكد من القرابة لا ترى استغاثة الجهنميين ﴿فَمَا لَنَا مِن شَـافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات ومعنى ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ أو بيوت أصدقائكم، والصديق يكون للواحد والجمع كالخليط والقطين، وقد أكل جماعة من أصحاب الحسن من بيته وهو غائب فجاء فسر بذلك وقال : هكذا وجدناهم يعني كبراء الصحابة، وكان الرجل يدخل بيت صديقه فيأخذ من كيسه فيعتق جاريته التي مكنته من ذلك. وعن جعفر الصادق : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وترك الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ. وقال هشام بن عبد الملك : نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه. وقال أهل العلم : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح.
وانتصب ﴿جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ﴾ على الحال أي مجتمعين أو متفرقين. قال الضحاك وقتادة : نزلت في حي من كنانة تحرجوا أن يأكل الرجل وحده فربما قعدوا لطعام بين يديه لا يجد من يؤاكله حتى يمسي فيضطر إلى الأكل وحده. وقال بعض الشعراء :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٧١
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي لهأكيلاً فإني لست آكله وحدي


الصفحة التالية
Icon