ثم وصف الآلهة بانتفاء إنشائهم شيئاً من الأشياء إشارة إلى انتفاء القدرة بالكلية، ثم بأنهم مخلوقون لله ذاتاً أو مصنوعون بالنحت والتصوير على شكل مخصوص، وهذا أبلغ في الخساسة ونسبة الخلق للبشر تجوز. ومنه قول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعضالقوم يخلق ثم لا يفري
وقال الزمخشري : الخلق بمعنى الافتعال كما في قوله ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ﴾ والمعنى أنهم آثروا على عبادته عبادة آلهة لا عجز أبَيْنَ من عجزهم، لا يقدرون على شيء من أفعال الله ولا أفعال العباد حيث لا يفتعلون شيئاً وهم يفتعلون لأن عبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير ﴿وَلا يَمْلِكُونَ لانفُسِهِمْ﴾ دفع ضرر عنها ولا جلب نفع إليها، وهم يستطيعون وإذا عجزوا عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع الذي يقدر عليه العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلاّ الله أعجز.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾. قال ابن عباس : هو النضر بن الحارث وأتباعه، والإفك أسوأ لكذب. ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ﴾، قال مجاهد : قوم من اليهود ألقوا أخبار الأمم إليه. وقيل : عداس مولى حويطب بن عبد العزّى، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي، وجبر مولى عامر وكانوا كتابيين يقرؤون التوراة أسلموا وكان الرسول يتعهدهم. وقال ابن عباس : أشاروا إلى قوم عبيد كانوا للعرب من الفرس أبو فكيهة مولى الحضرميين. وجبر ويسار وعداس وغيرهم. وقال الضحاك : عنوا أبا فكيهة الرومي. وقال المبرد : عنوا بقوم آخرين المؤمنين لأن آخر لا يكون إلاّ من جنس الأول انتهى. وما قاله لا يلزم للاشتراك في جنس الإنسان، ولا يلزم الاشتراك في الوصف. ألا ترى إلى قوله ﴿فِئَةٌ تُقَـاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾ فقد اشتركتا في مطلق الفئة، واختلفتا في الوصف.
والظاهر أن الضمير في ﴿فَقَدْ﴾ عائد على ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ والمعنى أن هؤلاء الكفار وردوا ظلماً كما تقول : جئت المكان فيكون جاء متعدياً بنفسه قاله الكسائي، ويجوز أن يحذف الجار أي بظلم
٤٨١
وزور ويصل الفعل بنفسه. وقال الزجاج : إذا جاء يستعمل بهذين الاستعمالين وظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من العجمي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب، والزور إن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه. وقيل : الضمير عائد على قوم آخرين وهو من كلام الكفار، والضمير في ﴿وَقَالُوا ﴾ للكفار وتقدم الكلام على ﴿أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ﴾ ﴿اكْتَتَبَهَا﴾ أي جمعها من قولهم كتب الشيء أي جمعه أو من الكتابة أي كتبها بيده، فيكون ذلك من جملة كذبهم عليه وهم يعلمون أنه لا يكتب ويكون كاستكب الماء واصطبه أي سكبه وصبه. ويكون لفظ افتعل مشعراً بالتكلف والاعتمال أو بمعنى أمر أن يكتب كقولهم احتجم وافتصد إذا أمر بذلك. ﴿فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ﴾ أي تلقى عليه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على المتحفظ كصورة الإملاء على الكاتب.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٧٨
و ﴿أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذه ﴿أَسَـاطِيرُ﴾ و﴿اكْتَتَبَهَا﴾ خبر ثان، ويجوز أن يكون ﴿أَسَـاطِيرُ﴾ مبتدأ و﴿اكْتَتَبَهَا﴾ الخبر. وقرأ الجمهور ﴿اكْتَتَبَهَا﴾ مبنياً للفاعل. وقراءة طلحة مبنياً للمفعول والمعنى ﴿اكْتَتَبَهَا﴾ كاتب له لأنه كان أمّياً لا يكتب بيده وذلك من تمام إعجازه، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار ﴿اكْتَتَبَهَا﴾ إياه كاتب كقوله ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ﴾ ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان بارزاً منصوباً وبقي ضمير الأساطير على حاله، فصار ﴿اكْتَتَبَهَا﴾ كما ترى انتهى. وهو من كلام الزمخشري ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين لأن ﴿اكْتَتَبَهَا﴾ له كاتب وصل فيه اكتتب لمفعولين أحدهما مسرح وهو ضمير الأساطير، والآخر مقيد وهو ضميره عليه السلام. وثم اتسع في الفعل فحذف حرف الجر فصار ﴿اكْتَتَبَهَا﴾ إياه كاتب فإذا بني هذا الفعل للمفعول إنما يتوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظاً وتقديراً لا المسرح لفظاً المقيد تقديراً، فعلى هذا كان يكون التركيب اكتتبته لا ﴿اكْتَتَبَهَا﴾ وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع عن العرب في هذا النوع الذي أحد المفعولين فيه مسرح لفظاً وتقديراً والآخر مسرح لفظاً لا تقديراً. قال الشاعر وهو الفرزدق :
ومنا الذي اختير الرجال سماحةوجوداً إذا هب الرياح الزعازع
ولو جاء على ما قرره الزمخشري لجاء التركيب ومنا الذي اختيره الرجال لأن اختار تعدى إلى الرجال على إسقاط حرف الجر إذ تقديره اختير من الرجال. والظاهر أن قوله ﴿اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ من تمام قول الكفار. وعن الحسن أنه قول الله سبحانه بكذبهم وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة في ﴿اكْتَتَبَهَا﴾ للاستفهام الذي في معنى الإنكار، ووجهه أن يكون نحو قوله :
أفرح إن أرزأ الكرام وإنآخذ ذوداً شصايصاً نبلا


الصفحة التالية
Icon